كتاب المسالك في شرح موطأ مالك (اسم الجزء: 3)

من خَلْفَهُ قُعودًا وإن لم تكن لهم علّة تمنعهم القيام.
واحتجُّوا بالحديث، لقوله: "فَإذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا اجْمَعُونَ" وأنّه عليه السّلام صلَّى بهم قاعِدًا، فَأَمَرَهُم بالقُعُودِ (¬1).
القول الثّاني: قال الشّافعيّ (¬2) وفِرَقٌ كثيرة (¬3): إنّ هذا الحديث منسوخٌ؛ لأنّه - صلّى الله عليه وسلم - صلَّى آخر صلاةٍ صَلَّاها قاعدًا والناسُ قيامٌ، فائْتَمَّ أبو بكرٍ برسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، وائْتَمَّ النّاسُ بابِي بكرٍ (¬4)، وهذا آخر الأمْرَينِ من فعله - صلّى الله عليه وسلم -، فإنّ هذا كان يوم مات - صلّى الله عليه وسلم -، وأَمرُ النَّاسِ بالقُعُودِ كان يوم جُحِشَ شِقُهُ قَبْلَ مَرَضِهِ الّذي تُوُفيَ فيه.
وقال الأوَّلون ابنُ حنبل وغيره: إنّ صلاة النَّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - هذه لا تُشْبِهُ الصَّلاةَ الّتي أَمَرَ فيها بالقُعُودِ، وتلك الصّلاة ابتدأَ فيها الإمام قاعدًا، فعليهم القُعُود بِسُنَّةِ النَّبيِّ عليه السّلام، وهذه صلاةٌ ابتَدَأَ فيها أبو بكرٍ بالقيامِ فقاموا خَلْفَهُ، ثم جاءَ النَّبيُّ بعد ذلك فقعدَ إلى جَنْبِهِ وهو مريضٌ، فالصلاةُ ما ابتدئت، فلا تُشْبِهُ هذهِ هذهِ، ولا تنسخُ هذِهِ هذِهِ والأُولَى سُنّة على معناها, والأُخْرَى سنة على معناها.
نكتةٌ:
ثمّ افترقوا، فقالت فرقة أحمد وغيره: إِنْ وَجَدَ الإمامُ من نفسه خِفَّةً أمامَ العامَّةِ، فجاءَ وقد تقدَّمَ غيرُهُ وهو مريضٌ، قَعَدَ إلى جَنْبِهِ، وصلَّى الإمامُ الأوَّلُ على ما ابتدأَ الصَّلاة قائمًا، وصلَّى الإمامُ الجائي وهو مريضٌ قاعدًا كما فعل النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ معه.
وقالت فرقةٌ: كان خاصًّا للنّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لا لغيره، إلّا أنّ الفِرْقَتَيْنِ جميعًا اجتمعتا على أنّ الصّلاة اليوم خَلْفَ الجالس سُنَّةٌ من سُنَنِ النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم -، وإن فعل النّبىّ - صلّى الله عليه وسلم - في مَرَضِهِ سُنَّة أُخْرَى لا تشبه إحداهما الاُخْرَى.
وقالت طائفة أخرى منهم مالكٌ وأبو يوسف: لا يَؤُمُّ النّاس جالسًا؛ لانّها منسوخةٌ، وقعودُ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم - بِجَنْبِ أبي بكرٍ خاصٌّ للنّبيَّ - صلّى الله عليه وسلم -؛ لأنّهما كانا إمامَيْنِ، ولا يجوز اليوم أَنْ يَؤُمُّ النّاس إمامان في الصّلاة.
¬__________
(¬1) كما في حديث الموطَّأ (359) رواية يحيى.
(¬2) في الأم: 2/ 308، وانظر الحاوي الكبير: 2/ 306.
(¬3) انظر الاعتبار في النّاسخ والمنسوخ من الآثار 81 - 85.
(¬4) أخرجه مالكٌ في الموطَّأ (360) رواية يحيى.

الصفحة 42