كتاب المسالك في شرح موطأ مالك (اسم الجزء: 5)

القِفَارِ وخوض البحار، تحقيقًا للموعد الحَقَّ المذكور حين قال - صلّى الله عليه وسلم -: " ناسٌ من أُمَّتِي عُرضُوا عَلَىَّ، يَركبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْر الأَخضَرِ غُزَاةُ في سبِيلِ الله، مثلَ المُلوكِ على الأَسِرَّةِ" (¬1)، وهذا يدلُّ على تحقيق الموعد من وراءِ البحارِ، وقد عَلِمَ - صلّى الله عليه وسلم - بلوغ ذلك، ولذلك قال - صلّى الله عليه وسلم - في الحديث الصّحيح (¬2):"لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْح، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنيَّةٌ" فإنّ الهجرة وإن كانت قد إنقطعت وذهبت، فإن الجهاد باقٍ خَلَفًا خَلَفا.
على أنّ الدّاودي (¬3) قد رَوَى عن النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - أنّه قال: "لَا تَنقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنقَطِعَ التَّوْبَةُ، ولا تنقطعُ التّوبةُ حتّى تَطْلُعَ الشّمسُ من مَغرِبِها" ومعنى هذا: أنّ الهجرة كانت مُسْتَحَبَّة في صدر الإسلام، ثّمّ كانت واجبة على النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لتتمكن الدَّوحة، وتَتّسعَ الدّارُ، وتنتشر المِلَّةُ، فلما فتح الله عليه مكّةَ، انقطع الوجوبُ وبَقِيَ الاستحبابُ (¬4)، إِلَّا في مَوْطِنَيْن:
¬__________
(¬1) أخرجه مالك في الموطَّأ (1336) رواية يحيى، والبخاري (2788، 2789، 2799، 2800)، ومسلم (1912) عن أنس بن مالك.
(¬2) أخرجه البخاريّ (2783)، ومسلم (1353) عن ابن عبّاس.
(¬3) في سُنَنِهِ، الحديث (2471) عن معاوية. وقال الخطابي في معالم السُّنَنِ: 3/ 352 "وإسناد حديث معاوية فيه مقال"، والحديث أخرجه أيضًا الدارمي (2516) والنًساني في الكبرى (8711)، والبيهقي: 9/ 17، وأحمد: 4/ 99 كلهم من طريق عبد الرّحمن بن أبي عوف، عن أبي هند البجلي، عن معاوية. قال عبد الحق في الأحكام الوسطى: 5/ 175 "أبو هند ليس بالمشهور" وتعقبه ابن القطّان في بيان الوهم والإيهام: 3/ 258 بقوله: "وليس كذلك بل هو مجهول لا يعرف بغير هذا, ولا يعرف روى عنه إِلَّا عبد الرّحمن هذا".
قلنا: وأبو هند هذا قد تُوبعَ حديثه فلم ينفرد به، انظر مسند أحمد: 1/ 192، وقد صححه الألباني في إرواء الغليل (1208).
(¬4) انظر في هذا المعنى معالم السنن للخطابي: 3/ 352، والعارضة: 7/ 88 - 89.

الصفحة 25