فإن قيل: لو كان حقًّا للآدميِّ لجازَ إسقاطُه بالعَفوِ كالقصاص.
قلنا: كذلك نقولُ في إحدى الرِّوايتَينِ: بجواز العفو فيه مطلقًا، والقولُ بالعَفوِ إذا أراد سترًا ضعيفٌ، وقد بيَّنَّا ذلك في "مسائل الخلاف".
المسألة الثّانية (¬1):
اتّفق علماءُ الامصارِ على أنّ القاذفَ إذا تابَ قُبِلَت شهادتُه، وخالفَهُم أبو حنيفةَ (¬2)، أخذًا بظاهر مُطلَقِ قولِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (¬3).
قال الإمام: وعَجَبًا له، كيف تعلَّق بهذا! أَوَ لَمْ يبقَ له في الدِّين ظاهرًا إِلَّا تَرَكَهُ، فلم يَبقَ عليه إِلَّا مراعاةُ هذا، ولو راعاه كما يَجِبُ لقال: إنَّ التّوبةَ تعملُ فيه، لقوله بعدَ ذلك: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} الآية (¬4)، وهذا الاستثناءُ راجعٌ إلى جميع ما تَقدَّمَ قبلَهُ.
وقال أبو حنيفةَ: يرجِعُ إلى أقرب مذكورٍ كالضّميرِ. والَّذي أَوجَبَ عليه هذا قِلَّةُ مَعرِفَتِهِ باللُّغةِ، فليس يمتنعُ في الاستثناءِ المُتَعَقَّبِ للجُمَلِ أنّ يَرجِعَ إلى جميعِها.
فإن قيل: لو رجَعَ إلى الجميع لسَقَطَ الجلدُ بالتّوبةِ.
قلنا: إنّما تُؤَثِّرُ التّوبةُ في إسقاطِ حقوقِ الله إجماعًا، وقد لا تُؤَثِّرُ فيها كما تقدَّم في "مسائل الخلاف".
المسألة الثّالثة (¬5):
قوله (¬6): "إِنَّ عُمَرَ بن عبد العزيز جَلَدَ عَبدًا في فِرْيَةٍ ثَمَانِينَ"* الفِريَةُ: هي الرَّميُ، وحدُّ الحُرِّ فيه ثمانونَ جَلْدَةً*، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
¬__________
(¬1) انظرها في القبس: 3/ 1019 - 1020.
(¬2) انظر مختصر اختلاف العلماء: 3/ 328، والمبسوط: 16/ 125 - 126.
(¬3) النور: 4.
(¬4) النور: 5.
(¬5) هذه المسألة مقتبسة من المنتقى: 7/ 146.
(¬6) أي قول أبي الزِّناد في الموطَّأ (2395) رواية يحيى، ورواه عن مالك: أبو مصعب (1778)، ومحمد بن الحسن (706)، وابن بكير عند البيهقي: 8/ 251.