كتاب منهاج السنة النبوية (اسم الجزء: 3)
وُجُودُ الْأَفْلَاكِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ مَشْهُودَةٌ عَيَانًا، وَهُمْ يُسَلِّمُونَ هَذَا، وَيَقُولُونَ بِأَنَّهَا مَعْلُولٌ عِلَّةٌ قَدِيمَةٌ، وَهُوَ مُوجِبٌ بِالذَّاتِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ مُوجِبُهُ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ أَصْلُ قَوْلِهِمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَمَا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ مُوجِبٍ بِالذَّاتِ ; لِأَنَّ الْحَوَادِثَ تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ (¬1) ، وَمَا يَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا لَا تَكُونُ أَجْزَاؤُهُ قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً، فَلَا تَكُونُ صَادِرَةً عَنْ مُوجِبٍ بِالذَّاتِ، [فَامْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ الْحَوَادِثُ صَادِرَةً عَنْ مُوجِبٍ بِالذَّاتِ] (¬2) ، وَامْتَنَعَ صُدُورُ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ بِدُونِ الْحَوَادِثِ اللَّازِمَةِ لَهُ ; لِأَنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُمْتَنِعٌ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كَانَ خَالِيًا عَنِ الْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ ثُمَّ حَدَّثَتْ فِيهِ ; لِأَنَّهُ يُقَالُ حِينَئِذٍ: فَلَا بُدَّ (¬3) لِتِلْكَ الْحَوَادِثِ مِنْ سَبَبٍ، فَالْقَوْلُ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ جَازَ أَنْ يَحْدُثَ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ، أَمْكَنَ ذَلِكَ فِي الْفَلَكِ، وَبَطَلَتْ حُجَّتُهُمْ، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَدَوَامُ الْحَوَادِثِ، وَأَنَّ الْفَلَكَ وَكُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مُقَارِنًا لِلْحَوَادِثِ (¬4) ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ قَارَنَ الْحَوَادِثَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ مُوجِبٍ بِالذَّاتِ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا.
¬_________
(¬1) ع: لِأَنَّ الْحَوَادِثَ لَا تَحْدُثُ إِلَّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.
(¬2) مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (ع) .
(¬3) ن، ع: لِأَنَّهُ يُقَالُ: فَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ.
(¬4) ن، م، ع: لِلْحَادِثِ.
الصفحة 124