كتاب منهاج السنة النبوية (اسم الجزء: 5)

يَسْتَوْلِيَ عَلَى الْقَلْبِ شُهُودُ مَعْبُودِهِ وَذِكْرُهُ وَمَحَبَّتُهُ، حَتَّى لَا يُحِسَّ بِشَيْءٍ آخَرَ، مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِ مَا أَثْبَتَهُ الْحَقُّ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ، وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَى الْقَلْبِ شُهُودُ الْوَاحِدِ، كَمَا يُقَالُ: غَابَ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ، وَبِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ.
كَمَا يُذْكَرُ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُحِبُّ آخَرَ، فَوَقَعَ الْمَحْبُوبُ فِي الْيَمِّ، فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ خَلْفَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا وَقَعْتُ فَلِمَاذَا وَقَعْتَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: غِبْتُ بِكَ عَنِّي، فَظَنَنْتُ أَنَّ أَنِّي (¬1) . فَصَاحِبُ هَذَا الْفَنَاءِ إِذَا غُلِبَ (¬2) فِي ذَلِكَ فَهُوَ مَعْذُورٌ، لِعَجْزِهِ عِنْدَ غَلَبَةِ ذِكْرِ الرَّبِّ عَلَى قَلْبِهِ عَنْ شُعُورِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ، كَمَا يُعْذَرُ مَنْ سَمِعَ الْحَقَّ فَمَاتَ أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَكَمَا عُذِرَ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صُعِقَ حِينَ تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ.
وَلَيْسَ هَذَا الْحَالُ غَايَةَ السَّالِكِينَ، وَلَا لَازِمًا لِكُلِّ سَالِكٍ. [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ سَالِكٍ] (¬3) مِنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، هُمْ أَفْضَلُ. وَمَا أَصَابَ أَحَدًا مِنْهُمْ هَذَا الْفَنَاءُ وَلَا صَعْقٌ وَلَا مَوْتٌ (¬4) عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا تَجِدُ (¬5) هَذَا الصَّعْقُ فِي التَّابِعِينَ، لَا سِيَّمَا فِي عُبَّادِ الْبَصْرِيِّينَ.
¬_________
(¬1) ب: فَظَنَنْتُ أَنَّكَ أَنَا، ن، م: حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَنِّي.
(¬2) ح، ر، ب: إِذَا غَابَ.
(¬3) مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(¬4) ح، ب: وَلَا صُعِقَ وَلَا مَاتَ.
(¬5) تَجِدُ: كَذَا فِي (ي) وَفِي (ن) تَجِدُ وَفِي (م) يَجِدُ وَفِي (ح) ، (ر) (و) (ب) تَجَدَّدَ.

الصفحة 356