كتاب منهاج السنة النبوية (اسم الجزء: 5)

بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا ". قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " مَجَالِسُ الذِّكْرِ» " (¬1) . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ: " «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» " (¬2) ; فَإِنَّ هَذَا كَانَ أَعْظَمَ مَجَالِسِ الذِّكْرِ.
وَالْمُنْكِرُونَ لِرُؤْيَتِهِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ تُنْكِرُ هَذِهِ اللَّذَّةَ، وَقَدْ يُفَسِّرُهَا مَنْ يَتَأَوَّلُ (¬3) الرُّؤْيَةَ بِمَزِيدِ الْعِلْمِ عَلَى لَذَّةِ الْعِلْمِ بِهِ، كَاللَّذَّةِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا بِذِكْرِهِ، لَكِنْ تِلْكَ أَكْمَلُ.
وَهَذَا قَوْلُ مُتَصَوِّفَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَالنُّفَاةِ، كَالْفَارَابِي، وَكَأَبِي حَامِدٍ، وَأَمْثَالِهِ، فَإِنَّ مَا فِي كُتُبِهِ مِنَ " الْإِحْيَاءِ " وَغَيْرِهِ مِنْ لَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى (¬4) ، [وَالْفَلَاسِفَةُ تُثْبِتُ اللَّذَّةَ الْعَقْلِيَّةَ، وَأَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ
¬_________
(¬1) الْحَدِيثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 5/194 (كِتَابُ الدَّعَوَاتِ، بَابٌ مِنْهُ) ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ) وَالْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 3/150
(¬2) الْحَدِيثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْمَازِنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْبُخَارِيِّ 2/61 (كِتَابُ فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، بَابُ فَضْلِ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ) ، وَهُوَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي: الْبُخَارِيِّ 3/23 (كِتَابُ فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ، بَابٌ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى. . .) وَزَادَ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي 8/121 (كِتَابُ الرِّقَاقِ، بَابٌ فِي الْحَوْضِ) 9/105 (كِتَابُ الِاعْتِصَامِ، بَابُ مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. .) ، سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ 5/376 - 377 (كِتَابُ الْمَنَاقِبِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ) ، وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ وَالْمُوَطَّأِ وَالْمُسْنَدِ.
(¬3) ن: مَنْ يُنْكِرُ.
(¬4) يَتَكَلَّمُ الْغَزَالِيُّ عَلَى لَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي " الْإِحْيَاءِ " 14/62 - 76 فَيَقُولُ: 14 " 62 اعْلَمْ أَنَّ اللَّذَّاتِ تَابِعَةٌ لِلْإِدْرَاكَاتِ "، وَيُفَصِّلُ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ النُّقْطَةِ، ثُمَّ يَقُولُ 14/64: " وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعِلْمَ لَذِيذٌ، وَأَنَّ أَلَذَّ الْعُلُومِ الْعِلْمُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَدْبِيرِهِ فِي مَمْلَكَتِهِ مِنْ مُنْتَهَى عَرْشِهِ إِلَى تُخُومِ الْأَرَضِينَ. فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ لَذَّةَ الْمَعْرِفَةِ أَقْوَى مِنْ سَائِرِ اللَّذَّاتِ أَعْنِي لَذَّةَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ. إِلَخْ ثُمَّ يَقُولُ 14/70: " اعْلَمْ أَنَّ الْمُدْرَكَاتِ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَدْخُلُ فِي الْخَيَالِ. . . وَإِلَى مَا لَا يَدْخُلُ فِي الْخَيَالِ، كَذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا لَيْسَ بِجِسْمٍ، كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِهِمَا. . إِلَى أَنْ يَقُولَ 14/71 " وَوَافَى اسْتِحْقَاقَ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ وَقْتٌ مُبْهَمٌ. .، لِأَنَّ فِيهِ يَتَجَلَّى الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَتَجَلَّى لَهُ تَجَلِّيًا يَكُونُ انْكِشَافُ تَجَلِّيهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا عَلِمَهُ كَانْكِشَافِ تَجَلِّي الْمِرْآةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا تَخَيَّلَهُ، وَهَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ وَالتَّجَلِّي هِيَ الَّتِي تُسَمَّى رُؤْيَةٌ. . ".

الصفحة 390