كتاب منهاج السنة النبوية (اسم الجزء: 5)

مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ تَقَدُّمًا ذَاتِيًّا - فَإِنَّ الْجُزْءَ قَبْلَ الْكُلِّ، وَالْمُفْرَدَ قَبْلَ الْمُرَكَّبِ -، وَأُرِيدَ بِذَلِكَ التَّرْكِيبُ فِي الْخَارِجِ، فَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ. فَإِنَّ الصِّفَةَ تَابِعَةٌ لِلْمَوْصُوفِ، فَكَيْفَ تَكُونُ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؟
وَإِذَا قِيلَ: هُوَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّاطِقِيَّةِ، أَوْ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ، فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ جَوْهَرَيْنِ قَائِمَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ مَوْصُوفٍ جَوَاهِرُ كَثِيرَةٌ بِعَدَدِ صِفَاتِهِ، فَيَكُونُ فِي الْإِنْسَانِ جَوْهَرٌ هُوَ جِسْمٌ، وَجَوْهَرٌ هُوَ حَسَّاسٌ، وَجَوْهَرٌ هُوَ نَامٍ، وَجَوْهَرٌ هُوَ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ، وَجَوْهَرٌ هُوَ نَاطِقٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ، بَلِ الْإِنْسَانُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، فَيُقَالُ: جِسْمٌ حَسَّاسٌ (¬1) نَامٍ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ نَاطِقٌ.
وَإِنْ أُرِيدَ [بِهِ] (¬2) أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ عَرَضَيْنِ، فَالْإِنْسَانُ جَوْهَرٌ، وَالْجَوْهَرُ لَا يَتَرَكَّبُ مِنْ أَعْرَاضٍ لَاحِقَةٍ لَهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ سَابِقَةً لَهُ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهِ.
وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةَ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي جَعْلِ الْأُمُورِ الذِّهْنِيَّةِ الْمَعْقُولَةِ فِي النَّفْسِ، فَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ أُمُورًا مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ، فَأَصْحَابُ فِيثَاغُورْسَ الْقَائِلُونَ بِالْأَعْدَادِ الْمُجَرَّدَةِ فِي الْخَارِجِ مِنْ هُنَا كَانَ غَلَطُهُمْ (¬3) ،
¬_________
(¬1) ن: جِسْمٌ جَوْهَرٌ حَسَّاسٌ، وَهُوَ خَطَأٌ.
(¬2) بِهِ سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .
(¬3) فِيثَاغُورْسُ Pythagoras فَيْلَسُوفٌ وَرِيَاضِيٌّ شَهِيرٌ، عُرِفَ حَوَالَيْ مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ السَّادِسِ قَبْلَ الْمِيلَادِ. قَالَ: إِنَّ الْعَالَمَ أَشْبَهُ بِعَالَمِ الْأَعْدَادِ مِنْهُ بِعَالَمِ الْمَاءِ أَوِ النَّارِ أَوِ التُّرَابِ، وَقَالَ: إِنَّ الْمَوْجُودَاتِ أَعْدَادٌ وَأَنَّ الْعَالَمَ عَدَدٌ وَنَغَمٌ، وَقَالَ بِالتَّنَاسُخِ، انْظُرْ عَنْهُ: الْمِلَلَ وَالنِّحَلَ 2/78 - 79، تَارِيخَ الْحُكَمَاءِ لِلْقِفْطِيِّ ص 258، 259، طَبَقَاتِ الْأَطِبَّاءِ لِابْنِ أَبِي أُصَيْبِعَةَ، 1/60 - 68، تَارِيخَ ابْنِ الْعِبْرِيِّ ص 50، تَارِيخَ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ لِكَرَمٍ ص 20 - 26، فَجْرَ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ، ص 70 - 92، نَشْأَةَ الْفِكْرِ الْفَلْسَفِيِّ 38 - 60، رَبِيعَ الْفِكْرِ الْيُونَانِيِّ ص 106 - 116، الْفَلْسَفَةَ عِنْدَ الْيُونَانِ ص 69 - 82 Greek Philosophy، pp، 36 - 40.

الصفحة 456