كتاب مصادر الشعر الجاهلي

بعض بقاياها ورواسبها؛ وذلك هو ما أشرنا إليه بالجدول الأول لحضارة العصر الجاهلي الأخير.
وأما الجدول الثاني -وهو ما سميناه بالحضارة الطريفة المقبوسة- فيكفينا منه ما كفانا في سابقه: إشارات عامة تكشف لنا عن خطوطه الكبرى. وتتمثل هذه الحضارة في ذلك الاتصال الوثيق الذي كان يربط عرب الجزيرة بالحضارات القائمة في جوارها من فارسية ورومية ومصرية إلخ ... وربما كانت أهم سبل هذا الاتصال هي:
أولًا: هاتين الإمارتين العربيتين اللتين كانتا تتاخمان الحضارتين الكبريين لذلك العهد، واللتين كانتا أشبه ما تكونان بالثغور على الحدود، وهما: المناذرة في الحيرة، والغساسنة في الشام. فقد كان اتصال هاتين الدولتين بالفرس والروم من جانب، وبالجزيرة العربية من الجانب الآخر، اتصالًا وثيقًا. فكانتا لذلك قناتين كبيرتين انسرب منهما أثر هاتين الحضارتين إلى الجزيرة العربية.
ثانيًا: هذه الطرق التجارية المنظمة التي كانت تتخلل صحراوات بلاد العرب، وتلك المواثيق والعهود التي كانت تربط العرب الذين نمر تلك القوافل ببلادهم فيتعهدون بالمحافظة عليها لقاء جعل يدفع إليهم.
ثالثًا: هذه الأسواق والمواسم العربية التي كان العرب يقيمونها في أطراف الجزيرة حينًا وفي قلبها حينًا آخر. فكان يؤمها العرب من مختلف بقاعهم وعلى تباين حظوظهم من الحضارة والمدنية. وكان يؤمها كذلك بعض التجار الفرس والهنود والمصريين والرومان، فكان كل أولئك يلتقون في صعيد واحد، يأخذون ويعطون ويتبادلون ما عندهم من متاع وعروض، ومن آراء وأفكار، ومن مظاهر الحضارات المختلفة1.
__________
1 كان كثير من تجار الأمم المحيطة ببلاد العرب -سواء في ذلك الأمم القريبة والنائية- ينتقلون إلى جزيرة العرب، فكان بعضهم يوافي أسواق العرب ويجتمعون فيها للتجارة، كما كانت تفعل فارس حينما كانت توافي بسوق المشقر يقطعون البحر إليها ببياعاتها "ابن حبيب، المحبر ص263-265" وكان يجتمع في دبا تجار الهند والسند والصين وأهل المشرق والمغرب فيشترون بها بيوع العرب والبحر ثم يسيرون بجميع من فيها من تجار البحر والبر إلى الشجر، شجر مهرة، ويبيعونهم ما ينفق بها من الأدم والبز وسائر المرافق، ويشترون بها الكندر والمر والصبر والدخن "أبو علي المرزوقي الأصفهاني، الأزمنة والأمكنة، ط. الهند، الباب الأربعون".

الصفحة 16