كتاب مصادر الشعر الجاهلي

القرن السادس للميلاد. فلم يكن إذن ما ذكرناه من هذه الحضارات أمرًا جمح إليه الخيال، وأثبته الوهم، ولم يكن شيئًا قد تطاول عليه الزمن حتى عفى عليه، واندرست معالمه، وانمحى أثره، وخلف من بعده أحقابًا طوالًا، وقرونًا ممتدة، أرجعت هؤلاء العرب على أعقابهم، وأعادتهم إلى النشأة الأولى والحياة البدائية.
وما ينبغي لمتثبت أن يغفل عن الفروق الكثيرة في المعالم الاجتماعية بين قوم لم يكن لهم في حياة الجماعة سابقة من حضارة أو علم، أو كانت لهم ثم عفى عليها الزمن، فعادت كأن لم تكن.. فأولئك هم البدائيون حقًّا؛ وبين قوم قد كان لهم ما كان ثم تقلص ظله، وتسرب الوهن إلى كيانه؛ ولكنه لم يزل حيًّا في نفوسهم وضمائرهم، قائمًا في خيالهم وتصورهم، مبثوثة معالمه في حيث كانوا يجوسون خلال ديارهم.
ولقد تكلفنا ما تكلفنا من القول، وحشدنا له ما حشدنا من الأمثلة والشواهد في إيجاز شديد واقتضاب من القول؛ لأننا إنما عنينا -في هذا البحث التمهيدي- بتبيان الخطوط الرئيسية التي نستدل بها على أن عرب العصر الجاهلي ليس بمستنكر عليهم -بما كان لهم من حظ موروث في حضارات أصلية سامقة، وما كان لهم من سهم موفور في الاتصال بالحضارات المنتشرة لعهدهم- أن يحيوا على تفاوت بيئاتهم، حياة حضارية، من ألوانها: معرفتهم بالكتابة معرفة سنفصل القول فيها فيما سيتلو من صفحات.
وإذا كنا لا نقصد بما قدمنا أن نثبت -ابتداء ومن غير سند من نص أو رواية- انتشار الكتابة في الجاهلية، فإننا نريد أن ننبه على سقوط حجة من يسرع ابتداءً -كذلك- إلى نفي أي نص أو رواية فيهما ما يدل على انتشار هذا اللون من الحضارة، بحجة أن الجاهلية جاهلة، وأن العرب كانوا قومًا بدائيين لم يعرفوا هذا الضرب من الحضارة. أما وقد أسقطنا الحجة بما قدمنا من القول فقد سقط بذلك الاحتجاج كله، وأصبحنا نحن وهم على أرض سواء لا يغني فيها إلا دليل من نص، أو برهان من رواية؛ وذلك ما نسأل الله تعالى أن يعيننا على الوفاء به فيما سيلي من أبواب وفصول.

الصفحة 19