كتاب مصادر الشعر الجاهلي

وقد بذلت أقصى الجهد في أن أنهج نهجًا علميًّا خالصًا: لا أميل مع هوى، ولا أتعصب لرأي، ولا أعتسف الطريق من أمامي اعتسافًا. بل لعل من الصواب أن أذكر أني، حين دخلت في الموضوع، لم يكن يحفزني إلا الموضوع نفسه؛ ولم يكن نصب عيني غاية بذاتها أتوخاها وأرمي إلى إقامة الدليل عليها، غير الغاية المجردة التي سينتهي إليها البحث الموضوعي وحده؛ فقد كان قلبي مع هذا الشعر حين كنت أقرؤه، وكان عقلي عليه حين كنت أقرأ عنه، فأردت أن أصل إلى يقين يجتمع عنده اقتناع العقل واطمئنان القلب معًا. ولم يكن أمامي سبيل لذلك إلا أن آخذ نفسي بتحري المنهج العلمي الدقيق، والتزام حدوده التزامًا لا ترخص فيه:
فشرعت أقرأ، والغموض يحيط بي، والحيرة تأخذني من كل جانب. وقضيت نحو ثلاثة سنوات لا أكتب في الموضوع شيئًا غير ما كنت أدونه في جزازات متفرقة من نصوص وأخبار وروايات، تتصل بالموضوع في صميمه، أو تدور عليه من حوله. وكنت كلما قطعت شوطًا اتضح لي جانب، فأضطر أحيانًا إلى أن أقرأ مرة أخرى بعض ما كنت قرأت، لأسجل منه -على ضوء فهمي الجديد- بعض ما كنت أغفلت. ولم أبدأ الكتابة إلا بعد أن جمعت من النصوص ما أتاح لي تمثل الموضوع تمثلًا كاملًا أو مقاربًا.
ثم عدت إلى النصوص: أستكمل جمعها وتقييدها، وأرتبها في مجموعات، ينتظم كل مجموعة منها موضوع واحد، وتلتقي الموضوعات في فصول، والفصول في أبواب. ثم مضيت أفحص هذه النصوص، وأدرسها دراسة دقيقة: تقوم على استقراء النص واستنطاقه، واستشفاف دلالاته، في حدود ألفاظه ومراميه، من غير تحميل له فوق ما يحتمل، ولا توجيهه وجهة بعينها لا تتضمنها ألفاظه.
ولم أكن أكتفي بوجه واحد من الأمر حين يكون له وجهان أو وجوه، وإنما كنت أعرض كل وجه، وأقلبه على جوانبه، وأستوفي أدلته وشواهده، ثم أقابل بين هذه الوجوه المختلفة وأناقشها، وأنتهي إلى ترجيح واحد منها حين يتيسر الترجيح.
هذا وذاك مناخ معتدل فيه دفء لا يغلو فيصبح حرًّا، ولا يقصر فيصبح بردًا ... وفيها مع ذلك أمطار غزار تناسب أنهارًا وجداول1، تقوم على حفافيها مدن
__________
1 كانت الأمطار في جزيرة العرب في العصر الجاهلي غزيرة غزارة لا تعرفها الجزيرة الآن، ولغزارة الأمطار في الجاهلية آيات: أولاها -وهي أهمها في نظرنا- ما يحفل به الشعر الجاهلي من وصف السيول الدافقة، وذلك أكثر من أن يشار إليه. وثانيتها: كثرة الأودية ومسايل المياه التي تشاهد في الجزيرة -ليومنا هذا- غائرة غائضة. وقد عقد الهمداني فصلًا عن أودية السراة ومسايل المياه فيها في صفة جزيرة العرب "من ص71 إلى 78" حيث يفصل القول فيها تفصيلًا ويعد منها شيئًا كثيرًا، وانظر كذلك ص214 وما بعدها. وثالثة هذه الآيات ما يذهب إليه بعض العلماء في قولهم: "وكانت الرياح الغربية التي تروي غيومها الآن مرتفعات سورية وفلسطين تصل في الأزمنة الغابرة إلى الجزيرة قبل أن تفقد هذه الغيوم رطوبتها" "تاريخ العرب، مطول 1: 15".
والعلماء هؤلاء يشيرون إلى أن ذلك كان في عصور جيولوجية سحيقة في القدم، ولكن ما ذكرناه من أمر الشعر الجاهلي دال على أن ذلك كان مألوفًا في العصر الجاهلي الأخير. ومما يؤيد ذلك أن ديودوروس الصقلي -في القرن الأول قبل الميلاد- يذكر أن بلاد العرب التي تقع في الشمال من العربية السعيدة وتمتد حتى تجاور سورية "يتخللها كثير من الأنهار ويهطل عليها مطر غزير في الصيف فيكون لسكانها بذلك موسمان زراعيان في السنة الواحدة" "انظر: Diodorus Siculus, London, Book 2, p.54"
وقد ذكر عرام السلمي أسماء كثير من القرى الزراعية وأنواع فواكهها وثمارها وأشار إلى كثرة مائها، من ذلك قوله عن جبلي رضوى وعزور: "في الجبلين جميعًا مياه أوشال، والوشل: ماء يخرج من شاهقة لا يطورها أحد ولا يعرف منفجرها.. ويصب الجبلان في وادي غيقة، وغيقة تصب في البحر، ولها مسك: وهي مواضع تمسك الماء، واحدها مساك" "ص6" ويذكر "ينبع" فيقول: "قرية كبيرة غناء ... فيها عيون عذاب غزيرة الماء وواديها يليل يصب في غيقة ... وفي يليل هذه عين كبيرة تخرج من جوف رمل من أعذب ما يكون من العيون وأكثرها ماء ... " "ص8، 9" ويذكر "الصفراء" فيقول: "قرية كثيرة النخل والمزارع وماؤها عيون كلها، وهي فوق ينبع مما يلي المدينة، وماؤها يجري إلى ينبع" "ص8" ويذكر قرية السوارقية وفواكهها فيقول: "قرية غناء كثيرة الأهل.. ولهم مزارع ونخيل كثيرة وفواكه وموز وتين ورمان وعنب وسفرجل وخوخ.." "ص65".
وهو يذكر كثرة المطر فيقول: "وغدير خم هذا.. لا يفارقه ماء أبدًا من ماء المطر" "ص33" ويذكر الآبار التي في بعض الجبال فيقول عن مائها إنه "ماء سماء لا تنقطع هذه المياه لكثرة ما يجتمع فيها" "ص54".
بل إن هذه الأمطار ما زالت إلى يومنا هذا تهطل على الصحاري نفسها -بله السهول والجبال- كصحاري النفود والربع الخالي حتى إنها لتغطيها "ببساط من الخضرة يحولها إلى جنة للإبل والأغنام"، "وتغنى الأرض بالمراعي" "انظر تاريخ العرب، مطول 1: 17" وانظر كذلك ص20، 21 ففيهما وصف للخصب والخضرة في هضبة نجد وفي الحجاز وعير واليمن في أيامنا هذه.

الصفحة 3