كتاب مصادر الشعر الجاهلي

وإذا كانت نتائج البحث الأدبي والتاريخي عامة تعتمد -في أغلبها- على الروايات والأخبار والنصوص، فإن من الطبيعي أن تجيء نتائج ظنية ترجيحية؛ لا سبيل إلى الوصول إليها إلا بجمع هذه الروايات والأخبار والنصوص، واستقصائها، ودراستها دراسة قوامها: مقابلة بعضها ببعض، ومناقشتها، ونقد إسنادها ومتنها، بحيث ينتهي كل ذلك إلى تغليب نص على آخر، أو ترجيح رواية على غيرها، أو تفضيل خبر على سائر الأخبار. ولا سبيل في مثل هذه الأبحاث إلى اليقين القاطع، والقول الفصل، اللذين لا يتوافران إلا في العلم التجريبي وحده، حين يستطيع المرء، في معمله أو مختبره، أن يعيد التجربة عمليًّا ليقيم البرهان على صحة ما يذهب إليه. ومن أجل ذلك تجنبت أن ألقي الأحكام إلقاءً عامًّا قاطعًا، وإنما سقتها في صيغ ترجيحية غالبة.
ومع هذا كله، ففي البحث حماسة أحيانًا، وإلحاح على مسائل بعينها أحيانًا أخرى؛ ولكن ذلك كله إنما هو نتيجة طبيعية لاحقة، وليس مقدمة مفتعلة سابقة. فإن من الطبيعي، في المنهج العلمي نفسه، أن يندفع الباحث -في غير مغالاة ولا إسراف- في حماسته لبحثه وآرائه، بعد أن يكون قد وصل -عن طريق هذا المنهج العلمي- إلى أدلة يقتنع بصوابها، وحجج يطمئن إلى سلامتها، فيؤكدها كلما سنحت له فرصة للتأكيد، ويلح عليها كما أمكنه الإلحاح. وأحسب أن الفرق واضح بين الحماسة البصيرة للرأي حين يصل إليه المرء بعد بحث وتحر وتحقيق، وبين التعصب الأهوج للفكرة التي يدخل المرء بها في بحثه ابتداءً. فالحماسة الأولى من أمارات الحياة السليمة في البحث والباحث، والتعصب الثاني من علامات عجز الفكر وضيق الأفق. ومن هنا أرجو ألا أبعد عن الحق حين أقول: إن كل رأي في هذا الكتاب قد قامت من بين يديه وفرة من النصوص قادت إليه وانتهت به؛ وأن النص هو الذي وجه البحث إلى ما فيه من آراء، وليست الآراء هي التي وجهت البحث إلى النصوص: يجتلبها، ويقتنصها، ويستكثر منها، ويقسرها قسرًا لما يريد.
وقرى، وتهتز الأرض فتخرج من ثمرها وبقلها وفاكهتها ما شاء لها الله؛ ويكون من كل ذلك تلك الحضارة الزراعية التي عرفها التاريخ في العرب والأمم الأخرى ذات طابع واضح ومعالم مميزة. وقد تضن الطبيعة بمائها فلا تكاد ترسله إلا بمقدار، ثم تمسك إمساك الشحيح يندم على ما بسط من يده؛ فيكون من هذا الرذاذ الهين اللين سهوب ومراع ينتجعها قطان الصحاري بأنعامهم يلتمسون الكلأ، ثم لا تكاد تطمئن بهم النوى حتى تقتلعهم اقتلاعًا، وتقذفهم إلى مرعى جديد يكون أوفر حظًّا وأوفى نصيبًا. فتنشأ من ذلك طبقة اجتماعية عرفها التاريخ كذلك في سيره الطويل بطابعها الواضح ومعالمها المميزة.
وهذه الصحراء العربية يضيق جوفها عن أن يمد لقطانها من أسباب العيش غير ما كان يعيش عليه رجل الغابة الأول: يتنكب قوسه ويعلق كنانته، أو يحمل رمحه ويتقلد سيفه، ثم يضرب في الأرض باحثًا عن قوته بين حيوان الصحراء، وقد يؤوب بصيد سمين وقد يكون هو الصيد، أو قد يفوته ما أمل، فلا يجد له بدًّا من أن يجعل هدفه أخًا له يفتك به ويجرده مما يجوز. فتكون من ذلك طبقة اجتماعية ثالثة هي أولى الجماعات التي عرفها التاريخ منذ أن وجد الإنسان.
ولقد كانت هذه البلاد في مكان سوى بين أمم العالم، يتوسط الشرق والغرب، ويصل الجنوب بالشمال، فلا بد إذن من أن تكون طريقًا تجتازه التجارة من الشرق والجنوب إلى الشمال والغرب. وكان لا بد أن يكون لهذه التجارة قوامون يبذلون من مالهم ومن جهدهم في شرائها ونقلها وحراستها ثم بيعها ما يضطرهم إلى تنظيم أمرها وتهيئة وسائلها، فنشأت من ذلك تجارتان: تجارة داخلية محلية،

الصفحة 4