كتاب مصادر الشعر الجاهلي

فمن أمثلة ما ذكره عن معرفة الجاهليين بالعروض ما أورده ابن سعد والزمخشري في حديث إسلام أبي ذر الغفاري1، وذلك قول أبي ذر: "قال لي أخي أنيس: إن لي حاجة بمكة. فانطلق، فراث، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلًا على دينك يزعم أن الله أرسله. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: ساحر كاهن شاعر. وكان أنيس أحد الشعراء فقال: والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلا يلتئم على لسان أحد..".
ومثل ثانٍ لمعرفتهم بالعروض وعيوب القافية، ما ذكره أبو عبيدة قال2: "حدثني أبو عمرو بن العلاء قال: فحلان من الشعراء كانا يقويان: النابغة وبشر بن أبي خازم: فأما النابغة فدخل يثرب فغُنِّى بشعره، ففطن فلم يعد إلى إقواء. وأما بشر فقال له سوادة أخوه: إنك تقوى. فقال له: وما الإقواء؟ " وفي رواية أخرى "فقال له أخوه سمير: أكفأت وأسأت. فقال: وما ذاك؟ ".
فقد كان القوم إذن يعرفون الإكفاء والإقواء، وإن جهله أحدهم أو بعضهم فاحتاج إلى من يذكِّره به ويعرفه إياه.
ومثل ثالث: تلك القصة التي جرت بين النابغة الذبياني وحسان بن ثابت3، ولا يعنينا منها إلا قول النابغة لحسان حين أنشده قصيدته التي فيها:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
قال النابغة: "أقللت جفانك وأسيافك! " وذلك لأن "أسيافًا" جمع لأدنى العدد، والكثير "سيوف"، و"الجفنات" لأدنى العدد، والكثير "جفان".
فهل كان النابغة يعرف جموع القلة وجموع الكثرة؟ لست أدري لم ننكر عليه ذلك بالمعنى الذي أوضحناه، إلا أن يكون إنكارنا ضربًا من ضروب "تجهيل الجاهلية" الذي أسلفنا الإشارة إليه.
__________
1 الطبقات الكبير 4/ 1: 161-162، والفائق 1: 518.
2 المرزباني، الموشح: 59.
3 الموشح: 60.

الصفحة 49