كتاب مصادر الشعر الجاهلي

ما أنفقوا من وقت في قراءة هذا البحث، ومن جهد في مناقشة صاحبه، وكفاء ما حبوني به من رعاية وتشجيع، وأسبغوه على البحث من ثناء وتقدير.
أما أخي الصديق الأستاذ محمود محمد شاكر فإن فضله لا يقتصر على هذا البحث وحده، فلطالما اغترفت من علمه، وأفدت من مكتبته، وانتفعت بنصحه وتوجيهه؛ وما أكثر ما كان ينفق من وقت يناقش معي فيه بعض وجوه الرأي ويبصرني بما لم أكن لأصل إليه لولا غزير علمه وسديد نصحه.
ولقد كان له أكبر الفضل -بإخائه وعونه الكريم- في حثِّي على مواصلة العمل، وفي إخراج هذا البحث في كتاب يتداوله القراء.
وبعد:
فإن هذا البحث -كما ذكرت- هو الخطوة الأولى في سبيل دراسة هذا الموضوع، وأرجو أن تتلوها خطوات، تكمل ما فيه من نقص، وتقوم ما قد يكون فيه من عوج، وحسب هذا البحث أنه شق الطريق، وألقى فيها من المعالم ما يهدي السالكين، وحسبي منه أني أخلصت النية، وبذلت أقصى الجهد. ومن الله الهداية وبه التوفيق.
ناصر الدين الأسد
كانتا تسكنان المدينة، وثقيف كانت تسكن الطائف، وقريش البطاح كانت تسكن بطحاء مكة، وتغلب وبكر وإياد كان بعضها حاضرة تسكن الجزيرة وما بين النهرين، وعبد القيس كان منها حاضرة تسكن عمان والبحرين، وغيرها وغيرها من القبائل التي كانت تستوطن قرى اليمامة وقرى اليمن. فهذه وأشباهها من قبائل العرب كان أكثرها أهل مدر، مستقرة في موطنها، لا يعجلها التنقل والارتياد عن أن تقيم لنفسها من حولها حياة مدنية لا تختلف في شيء عما نعرفه من حياة سكان المدن في بلاد العرب لذلك العهد. وما أوضح ما رُوِي لنا عن أحد أحلاف الجاهلية من أن ذلك الحلف كان "في أهل الوبر في الجاهلية فلما جاء الإسلام، وكانت حنيفة بقيت من قبائل بكر لم تكن دخلت في الجاهلية في هذا الحلف، قال: وذلك أنهم أهل مدر؛ فدخلوا في الإسلام مع أخيهم عجل فصاروا لهزمة"1.
ونص آخر لا يقل وضوحًا وإبانة، قالوا2: "قريش الأباطح أشرف وأكرم من قريش الظواهر؛ لأن البطحاويين من قريش حاضرة وهم قطان الحرم، والظواهر أعراب بادية، وضاحية كل بلد ناحيتها البارزة".
فكثيرًا ما نجد إذن قبيلة واحدة تحيا حياتين مختلفتين: كان قسم منها يتحضر ويستقر ويسكن المدر، على حين يبقى قسم منها باديًا في أهل الوبر، في أطراف القرى والمدن. وقد كان هذا شأن القبيلة في الجاهلية والإسلام معًا؛ فمن ذلك: جهينة، كان قسم منها يسكن في الوبر دون المدر في نواحي جبلي رضوى وعزور3 على حين يسكن قسم آخر منها في المدر في ينبع "وهي قرية كبيرة غناء ... فيها عيون عذاب غزيرة الماء..4 ويسكن قسم ثالث منها في
__________
1 النقائض: 728.
2 اللسان "ضحا".
3 عرام بن الأصبغ السلمي، كتاب أسماء جبال تهامة وسكانها، ص7.
4 المصدر السابق: 8.

الصفحة 6