كتاب مصادر الشعر الجاهلي

-3-
ولعل الموضوع الثاني الذي كانوا يكتبونه، حريصين على كتابته ما وسعهم الحرص، هو هذه العهود والمواثيق والأحلاف التي يرتبطون بها فيما بينهم أفرادًا وجماعات. قال الجاحظ1: "كانوا يدعون في الجاهلية من يكتب لهم ذكر الحلف والهدنة تعظيمًا للأمر، وتبعيدًا من النسيان". وقد ورد ذكر هذه العهود المكتوبة في الشعر الجاهلي، قال الحارث بن حلزة اليشكري في شأن بكر وتغلب2:
واذكروا حلف ذي المجاز وما ... قدم فيه، العهود والكفلاء3
حذر الجور والتعدي، وهل ينـ ... ـقض ما في المهارق الأهواء؟
وذكر الجاحظ أنه "لا يقال للكتب:
مهارق، حتى تكون كتب دين أو كتب عهود وميثاق وأمان".
ومن الشعر الجاهلي الذي تذكر فيه هذه المهارق قول الأعشى4:
ربي كريم لا يكدر نعمة ... وإذا يناشد بالمهارق أنشدا
وربه هذا إنما يعني به سيدًا كريمًا متفضلًا عليه -كما يتضح من البيت السابق لهذا البيت- والمهارق هنا قد تعني الكتب الدينية، فيصف هذا السيد بالتدين وبأنه يلبي داعي الدين إلى صلة المحروم وإعطاء المحتاج، وقد تعني المهارق كتب العهود والأحلاف، فيكون معنى البيت أن هذا السيد الكريم لا يخفر ذمته ولا ينقض عهده، وإنما يفي بما عاهد عليه، فإذا ما ذكره بهذه العهود المكتوبة في المهارق بادر إلى المحافظة عليها والوفاء بها.
__________
1 الحيوان 1: 69-70
2 شرح المعلقات للتبريزي: 268-269، وقد شرح التبريزي البيتين بقوله: إن كانت أهواؤكم زينت لكم الغدر والخيانة بعد ما تحالفنا وتعاقدنا، فكيف تصنعون بما هو في الصحف مكتوب عليكم من العهود والمواثيق والبينات فيما علينا وعليكم؟
3 الكفلاء: الرهائن.
4 ديوانه: قصيدة: 34، بيت: 13

الصفحة 65