كتاب المستشرقون والسنة
ولعل أشدَّ المُسْتَشْرِقِينَ خطراً، وأطولهم باعاً (1)، وأكثرهم خُبثاً وإفساداً في هذا الميدان، هو المُسْتَشْرِقُ اليهودي المَجَرِي «جُولْدْتسِيهِرْ» الذي عُدَّ شيخ المُسْتَشْرِقِينَ في الجيل الماضي، ولا تزال كُتُبُهُ وبُحُوثُهُ مرجعاً خصباً وهَامّاً للمستشرقين في هذا العصر، يقول عنه كاتب مادة «الحديث» في " دائرة المعارف الإسلامية " للمستشرقين: «إنَّ العلم مَدِينٌ دَيْناً كبيراً لما كتبه «جُولْدْتسِيهِرْ» في موضوع الحديث، وقد كان تأثير «جُولْدْتسِيهِرْ» على مسار الدراسات الإسلامية والاستشراقية أعظم مِمَّا كان لأيٍّ من معاصريه من المُسْتَشْرِقِينَ، فقد حَدَّدَ تحديداً حاسماً اتجاه وتطور البحث في هذه الدراسات» (2) ويلخِّصُ «بغانموللر» عمل «جُولْدْتسِيهِرْ» في هذا المجال فيقول: «كان «جُولْدْتسِيهِرْ» أعمق العارفين بعلم الحديث النبوي!، وقد تناول في القسم الثاني من كتابه: " دِرَاسَاتٌ مُحَمَّدِيَّةٌ " موضوع تطوُّر الحديث تناولاً عميقاً، وراح بما له في علم عميق واطِّلاَعٍ يفوق كل وصف! - يبحث التطور الداخلي والخارجي للحديث من كل النواحي .. ! وقد قادته المُعَايَشَةُ العميقة لمادة الحديث الهائلة إلى الشَكِّ في الحديث!، ولم يَعُدْ يثق فيه مثلما كان «دُوزِي» لا يزال يفعل ذلك في كتابه " مقال في تاريخ الإسلام " وبالأحرى كان «جُولْدْتسِيهِرْ» يعتبر القسم الأعظم من الحديث بمثابة نتيجة لتطور الإسلام الديني والتاريخي والاجتماعي في القرن الأول والثاني؟!، فالحديث بالنسبة له لا يُعَدُّ وثيقة لتاريخ الإسلام في عهده الأول: عهد طفولته، وإنما هو أثر من آثار الجهود التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصور المراحل الناضجة، لتطوُّر الإسلام! ويُصَوِّرُ «جُولْدْتسِيهِرْ» التطور التدريجي للحديث .. وكيف كان انعكاساً لروح العصر؟! وكيف عملت على ذلك الأجيال المختلفة .. ؟! وقد وَجَّهُوا شُبُهاتهم حول مفهوم السُنَّة وتدوينها، وجهالاتهم حول السند والمتن!.
ومن هذا وجدت أنَّ موقف المُسْتَشْرِقِينَ من السُنَّةِ النبوية - رغم الجهود الكثيرة التي سبقت في هذا الميدان كما سيأتي - يفرض نفسه بإلحاح، ويتطلَّبُ مواجهة جَادَّة، وِفْقَ أصول التحديث رواية ودراية، وإنْ كان يعتري ذلك كثير من
__________
(1) انظر " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 189.
(2) انطر: " الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ": ص 100 - 101، و " دائرة المعارف الإسلامية ": 13/ 391.
الصفحة 7
81