كتاب مختصر تاريخ دمشق (اسم الجزء: 18)

قال أبو محمد بن قتيبة
في حديث عبد الرحمن بن عوف أنه كان في كلامه لأصحاب الشورى: يا هؤلاء إن عندي رأياً، وإن لكم نظراً، إنّ حابياً خيرٌ من زاهق، وإن جرعة شروب أنقع من عذبٍ موبٍ، وإن الحيلة بالمنطق أبلغ من السيّوب في الكلم، فلا تطيعوا الأعداء وإن قربوا، ولا تفلّوا المدى بالاختلاف بينكم، ولا تغمدوا السيوف عن أعدائكم فتوتروا ثأركم، وتولتوا أعمالكم، لكلّ أجلٍ كتاب، ولكل بيت إمام، لأمره يقومون، وبنهيه يرعون، قلّدوا أمركم رحب الذراع فيما نزل، مأمون الغيب على ما استكن، يقترع منكم، وكلكم منتهى، ويرتضي منكم وكلكم رضىً.
فتكلم علي فقال: الحمد الله الذي اتخذ محمداً منا نبياً، وابتعثه إلينا رسولاً، فنحن بيت النبوة، ومعدن الحكمة، أمان لأهل الأرض، ونجاة لمن طلب، لنا حق، إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل، وإن طال السّرى، لو عهد إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهداً لجالدنا عليه حتى نموت، أو قال لنا قولاً لأنفذنا قوله على رغمنا، لن يسرع أحد قبلي إلى صلة رحم، ودعوة حق، والأمر إليك يا بن عوف على صدق اليقين، وجهد النصح. أستغفر الله لي ولكم.
قوله: إن حابياً خيرٌ من زاهق الحابي من السهام هو الذي يزحف إلى الهدف، يقال: حبا يحبو، فإن أصاب الرقعة فهو خاسق وخازق ومفرطس، فإن جاوز الهدف، ووقع خلفه فهو زاهق، يقال: زهق السهم إذا تقدم، وأراد عبد الرحمن أن الحابي من السهام وإن كان ضعيفاً فقد أصاب الهدف، فهو خير من الزاهق الذي قد جاوزه بشدة مرّه وقوّته، ولم يصبه، وضرب السهمين مثلاً لواليين: أحدهما ينال الحق أو بعضه وهو ضعيف، والآخر يجوز الحق ويبعد منه وهو قوي. والشّروب من الماء هو الملح الذي لا يشربه الناس إلا عند الضرورة: والموبي: الضار، المدخل في الوباء، وهو المرض، والحرف مهموز فترك همزه ليقابل به الحرف الذي قبله، وهو أيضاً مثل لرجلين:

الصفحة 36