كتاب الموافقات (اسم الجزء: 1)

بِهِمُ الْأَوْلِيَاءُ، مِنْهُمْ أَبُو حَمْزَةَ الْخُرَاسَانِيُّ؛ فَاتَّفَقَ لَهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ1 وَغَيْرُهُ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا النَّمَطُ مِمَّا يُنَاسِبُ اسْتِثْنَاؤُهُ2 مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ.
وَقِصَّةُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا3 حَتَّى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَدَقُوهُ، وَلَمْ يَعْتَذِرُوا لَهُ فِي مَوْطِنٍ كَانَ مَظِنَّةً لِلِاعْتِذَارِ، فَمُدِحُوا لِذَلِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ وَمَدَحَهُمْ فِي الْقُرْآنِ بَعْدَ مَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَلَكِنْ ظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ؛ فَفَتَحَ لَهُمْ بَابَ الْقَبُولِ، وَسَمَّاهُمْ صَادِقِينَ لِأَخْذِهِمْ بِالْعَزِيمَةِ دُونَ التَّرَخُّصِ4.
__________
1 في "رسالته" المشهورة "ص80"، وستأتي في "2/ 497".
2 فيكون رخصة، ولكنهم لم يأخذوا بها، وما ذاك إلا لأولوية العزيمة. "د".
3 أخرج قصتهم بتفصيل البخاري في "صحيحه" "كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، 8/ 113/ رقم 4418، وكتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، 4/ 2120/ رقم 2769"، وأبو داود في "السنن" "كتاب السنة، باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم، 4/ 199/ رقم 4600" مختصرا، وأحمد في "المسند" "3/ 454، 456-459"، وغيرهم.
4 كان من السهل التمسك بالأعذار العامة في حق الثلاثة؛ إذ كان الوقت قيظا والسفر بعيدا، وكان أوان جني الثمار، ولا داعي لأعذار خاصة، وقد قال كعب: إنه أوتي جدلا لم يؤته غيره، فكان يتأتى له أن يحسن الاعتذار مع لزوم الصدق، وهلال بن أمية كان شيخا مسنا؛ فعذره الخاص مقبول أيضا، وقد اعتذر بضعة وثمانون؛ فقبل منهم عليه الصلاة والسلام واستغفر لهم، ولم يثبت أن هؤلاء جميعا منافقون وإن كانت عبارة كعب في رواية القصة ربما يؤخذ منها أن أكثرهم كانوا كذلك؛ فالثلاثة لم يرتضوا المواربة بالأعذار العامة أو الأعذار الخاصة الضعيفة، وتحملوا مشاق الصدق وأثره؛ فمكثوا في البلاء خمسين يوما يبكون وينتحبون، وكان لهم منجى منه بعذر عام أو خاص صادق ولو ضعيفا، فكان يقبل منهم ويستغفر لهم، فتركوا الرخصة لهذه العزيمة؛ كما قال المؤلف. "د".
وكتب "خ" ما نصه: "لا يظهر في هذه الواقعة وجه للرخصة حتى يعقد بينها وبين اعترافهم بالذنب موازنة، ويقال: إن أولئك الثلاثة رجحوا جانب العزيمة؛ إذ ليس لهم أعذار صادقة يقدمونها بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو أنهم لفقوا أعذارا ابتدعوها؛ لكانوا قد أضافوا إلى ذنب التخلف عن الغزو ذنب الكذب المذموم، واعتذارات كاعتذارات المنافقين وإن كانت نافعة لهم في الدنيا لا تدخل في قبل الرخصة؛ إذ الرخصة رفع الحرج الذي لا يلحقه العقاب عاجلا وآجلا".

الصفحة 502