كتاب الموافقات (اسم الجزء: 1)

لَا يُقَالُ: كَيْفَ يَكُونُ اجْتِهَادِيًّا وَفِيهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ؛ كَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] 1} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 184] .
وَ "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ" 2.
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَسِوَاهُ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ.
لِأَنَّا نَقُولُ: حَالَةُ الِاضْطِرَارِ قَدْ تُبَيِّنُ أَنَّهُ الَّذِي يَخَافُ مَعَهُ فَوْتَ الرُّوحِ3، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ عُذْرٌ أَيْضًا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فَمَحْمُولٌ عَلَى تَحَقُّقِ الْمَشَقَّةِ4 الَّتِي يَعْجِزُ مَعَهَا عَنِ الْقِيَامِ بِالْوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الدُّنْيَوِيَّةِ، بِحَيْثُ تَرْجِعُ الْعَزِيمَةُ إِلَى نَوْعٍ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ منتفٍ سَمْعًا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَشَاقِّ مُفْتَقِرٌ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِ تَحْتَ تِلْكَ النُّصُوصِ، وَفِيهِ تَضْطَرِبُ أَنْظَارُ النُّظَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ النُّصُوصِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ -وَهُوَ رُوحُ هَذَا الدَّلِيلِ- هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ الطَّارِئَةَ تَقَعُ لِلْعِبَادِ ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا لِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَرَدُّدِ الْمُتَرَدِّدِينَ، حَتَّى يَظْهَرَ لِلْعَيَانِ مَنْ آمَنَ بِرَبِّهِ عَلَى بَيِّنَةٍ، مِمَّنْ هُوَ فِي شَكٍّ، وَلَوْ كَانَتِ التَّكَالِيفُ كُلُّهَا يَخْرِمُ كُلِّيَّاتِهَا كُلُّ مَشَقَّةٍ عَرَضَتْ؛ لَانْخَرَمَتِ الْكُلِّيَّاتُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الْخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ؛ فَالِابْتِلَاءُ في
__________
1 ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة.
2 مضى تخريجه في "ص480".
3 أي: أو العضو. "د".
4 تقدم أن ذلك فيما لم يحد فيها حد شرعي، كالسفر مثلا وجمع العشاءين بمزدلفة. "د".

الصفحة 506