كتاب الموافقات (اسم الجزء: 1)

بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّ "الْخَيْرَ عَادَةٌ، وَالشَّرَّ لَجَاجَةٌ" 1، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ، وَالْمُتَعَوِّدُ لِأَمْرٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرُ مَا لَا يَسْهُلُ عَلَى غَيْرِهِ؛ كَانَ خَفِيفًا فِي نَفْسِهِ أَوْ شَدِيدًا، فَإِذَا اعْتَادَ التَّرَخُّصَ؛ صَارَتْ كُلُّ عَزِيمَةٍ فِي يَدِهِ كَالشَّاقَّةِ الْحَرِجَةِ، وَإِذَا صَارَتْ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَقُمْ بِهَا حَقَّ قِيَامِهَا، وَطَلَبَ الطَّرِيقَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْمُتَوَقَّعُ فِي أُصُولٍ كُلِّيَّةٍ، وَفُرُوعٍ جُزْئِيَّةٍ، كَمَسْأَلَةِ الْأَخْذِ بِالْهَوَى فِي اخْتِلَافِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَمَسْأَلَةِ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ بِالْمَنْعِ وَالْجَوَازِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نُبِّهَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ أَوْ لَمْ يُنَبَّهْ عَلَيْهِ.
وَبَيَانُ الثَّانِي ظَاهِرٌ أَيْضًا مِمَّا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّهُ ضِدُّهُ.
وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ أَسْبَابَ الرُّخَصِ أَكْثَرُ مَا تَكُونُ مُقَدَّرَةً وَمُتَوَهَّمَةً لَا مُحَقَّقَةً، فَرُبَّمَا عَدَّهَا شَدِيدَةً وَهِيَ خَفِيفَةٌ فِي نَفْسِهَا؛ فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّعَبُّدِ، وَصَارَ عَمَلُهُ ضَائِعًا وَغَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أَصْلٍ, وَكَثِيرًا مَا يُشَاهِدُ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ؛ فَقَدْ يَتَوَهَّمُ الْإِنْسَانُ الْأُمُورَ صَعْبَةً، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ إِلَّا بِمَحْضِ التَّوَهُّمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لِخَوْفِ لُصُوصٍ أَوْ سِبَاعٍ، إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ أَعَادَ عِنْدَ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ عَدَّهُ مُقَصِّرًا؛ لِأَنَّ هَذَا يَعْتَرِي فِي أَمْثَالِهِ مُصَادَمَةُ الْوَهْمِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رَأَى اللُّصُوصَ أَوِ السِّبَاعَ وَقَدْ مَنَعَتْهُ مِنَ الْمَاءِ؛ فَلَا إِعَادَةَ هُنَا، وَلَا يُعَدُّ هَذَا مُقَصِّرًا، وَلَوْ تَتَبَّعَ الْإِنْسَانُ الْوَهْمَ؛ لَرَمَى به في مهاوٍ
__________
1 أي: البقاء عليه والعودة إليه تمادٍ من صاحبه لأنه ممقوت بخلاف الخير، انظر: "لسان العرب" "ل ج ج"، وسيأتي "2/ 150" على أنه حديث، وهو في "مجمع الأمثال" للميداني "1/ 247/ رقم 1325" على أنه مثل.
وفي حاشية الأصل: "في القاموس: اللجاجة: الخصومة"، ثم ذكر آخر المادة أنه يقال في مواده لجاجة؛ أي: خفقا من الجوع.

الصفحة 508