كتاب الموافقات (اسم الجزء: 1)
السَّبَبُ مُنْتَهِضًا عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى اللُّزُومِ؛ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْحِكْمَةَ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ عَلَى كَمَالِهَا؛ فَالْأَحْرَى الْبَقَاءُ مَعَ الْأَصْلِ، وَأَيْضًا؛ فَالْمَشَقَّةُ التَّوَهُّمِيَّةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الِاحْتِيَاطِ عَلَى الْمَشَقَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ, وَالْحَقِيقِيَّةُ لَيْسَتْ فِي الْوُقُوعِ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَكُنْ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا مُتَمَكِّنًا.
وَأَمَّا الرَّاجِعَةُ إِلَى أَهْوَاءِ النُّفُوسِ خُصُوصًا؛ فَإِنَّهَا ضِدُّ الْأُولَى؛ إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ مِنْ وَضْعِ الشَّرَائِعِ إِخْرَاجُ النُّفُوسِ عَنْ أَهْوَائِهَا وَعَوَائِدِهَا، فَلَا تُعْتَبَرُ فِي شَرْعِيَّةِ الرُّخْصَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَنْ هَوِيَتْ نَفْسُهُ أَمْرًا، أَلَا تَرَى كَيْفَ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنِ اعْتَذَرَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأَهْوَاءِ النُّفُوسِ لِيَتَرَخَّصَ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 49] ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: ائْذَنْ لِي فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، وَلَا تَفْتِنِّي بِبَنَاتِ الْأَصْفَرِ؛ فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْهُنَّ1، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 81] ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعُذْرَ الصَّحِيحَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] الآيات؛ فَبَيَّنَ أَهْلَ الْأَعْذَارِ هُنَا، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَ الْجِهَادَ، وَهُمُ الزَّمْنى، وَالصِّبْيَانُ، وَالشُّيُوخُ، وَالْمَجَانِينُ، وَالْعُمْيَانُ، وَنَحْوُهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَجِدْ نَفَقَةً أَصْلًا, وَلَا وَجَدَ مَنْ يَحْمِلُهُ وَقَالَ فِيهِ: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] ، وَمِنْ جُمْلَةِ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ لَا يُبْقُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بَقِيَّةً فِي طَاعَةِ اللَّهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} ؟ [التَّوْبَةِ: 41] وَقَالَ: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} الْآيَةَ [التوبة: 39] ؛ فما ظنك بمن كان
__________
1 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" "2/ 308" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وفيه يحيى الحماني، وهو ضعيف، وأخرجه ابن جرير في "التفسير" "14/ 287-288" عن يزيد بن رومان والزهري وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر وغيرهم به.
وهذه مقاطيع لا تثبت.
الصفحة 515