كتاب الموافقات (اسم الجزء: مقدمة)

تحقيق هذه المقاصد، وتحرِّي بسطها، واستقصاء تفاريعها، واستثمارها من استقراء موارد الشريعة فيها؛ هو معرفة سر التشريع، وعلم ما لا بد منه لمن يحاول استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
إذ إنه لا يكفي النظر في هذه الأدلة الجزئية دون النظر إلى كليات الشريعة، وإلا؛ لتضاربت بين يديه الجزئيات، وعارض بعضها بعضا في ظاهر الأمر، إذا لم يكن في يده ميزان مقاصد الشارع، ليعرف به ما يأخذ منها وما يدع؛ فالواجب إذًا اعتبار الجزئيات بالكليات، شَأْنَ الْجُزْئِيَّاتِ مَعَ كُلِّيَّاتِهَا فِي كُلِّ نَوْعٍ من أنواع الموجودات.
وإلى هذا أشار الغزالي فيما نقله عن الشافعي، بعد بيان مفيد فيما يُراعيه المجتهد في الاستنباط؛ حيث قال: "ويُلاحظ القواعد الكلية أولا، ويقدِّمها على الجزئيات، كما في القتل بالمثقل؛ فتُقدَّم قاعدة الرَّدْع، على مراعاة الاسم الوارد في الجزئي".
ومن هذا البيان عُلِم أن لاستنباط أحكام الشريعة رُكْنَين:
أحدهما: علم لسان العرب.
وثانيهما: علم أسرار الشريعة ومقاصدها.
أما الركن الأول؛ فقد كان وصفا غريزيا في الصحابة والتابعين من العرب الخلص، فلم يكونوا في حاجة لقواعد تضبطه لهم، كما أنهم كسبوا الاتصاف بالركن الثاني من طول صحبتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعرفتهم الأسباب التي ترتب عليها التشريع، حيث كان ينزل القرآن وتردُ السنة نجوما، بحسب الوقائع مع صفاء الخاطر؛ فأدركوا المصالح، وعرفوا المقاصد التي راعاها الشارع في التشريع، كما يعرف ذلك من وقف على شيء من محاوراتهم عند أخذ رأيهم واستشارة الأئمة لهم في الأحكام الشرعية التي كانوا يتوقفون فيها.

الصفحة 20