كتاب الموافقات (اسم الجزء: مقدمة)

فالأول كون هذه المباحث مبتكرة مستحدثة لم يُسبق إليها المؤلف كما أشرنا إليه، وجاءت في القرن الثامن بعد أن تم للقسم الآخر من الأصول تمهيده وتعبيد طريقه، وألفه المشتغلون بعلوم الشريعة وتناولوه بالبحث والشرح والتعلم والتعليم، وصار في نظرهم هو كل ما يطلب من علم الأصول؛ إذ إنه عندهم كما قلنا وسيلة الاجتهاد الذي لم يتذوقوه, فلا يكادون يشعرون بنقص في هذه الوسيلة, فلم تتطاول همة من سمع منهم بالكتاب إلى تناوله وإجهاد الفكر في مباحثه، واقتباس فوائده، وضمها إلى ما عرفوا، والعمل على إلفها فيما ألفوا، ولفْتِ طلاب العلم إليها، وتحريك هممهم وإعانتهم عليها.
والثاني أن قلم أبي إسحاق -رحمه الله- وإن كان يمشي سويا ويكتب عربيا نقيا؛ كما يشاهد ذلك في كثير من المباحث التي يخلص فيها المقام لذهنه وقلمه؛ فهناك ترى ذهنا سيالا، وقلما جوالا، قد تقرأ الصفحة كاملة لا تتعثر في شيء من المفردات ولا أغراض المركبات؛ إلا أنه في مواطن الحاجة إلى الاستدلال بموارد الشريعة والاحتكام إلى الوجوه العقلية، والرجوع إلى المباحث المقررة في العلوم الأخرى، يجعل القارئ ربما ينتقل في الفهم من الكلمة إلى جارتها، ثم منها إلى التي تليها، كأنه يمشي على أسنان المشط؛ لأن تحت كل كلمة معنى يشير إليه وغرضا يعول في سياقه عليه؛ فهو يكتب بعد ما أحاط بالسنة، وكلام المفسرين، ومباحث الكلام، وأصول المتقدمين، وفروع المجتهدين، وطريق الخاصة من المتصوفين، ولا يسعه أن يحشو الكتاب بهذه التفاصيل؛ فمن هذه الناحية وجدت الصعوبة في تناول الكتاب، واحتاج في تيسير معانيه وبيان كثير من مبانيه إلى إعانة مُعانيه، ومع هذا؛ فالكتاب يعين بعضه على بعض؛ فتراه يشرح آخره أوله وأوله آخره.

الصفحة 28