كتاب الموافقات (اسم الجزء: 2)

وَلَكَانُوا يَخْرُجُونَ عَنْ مُقْتَضَى التَّعْجِيزِ بِقَوْلِهِمْ: هَذَا عَلَى غَيْرِ مَا عَهِدْنَا، إِذْ لَيْسَ لَنَا عَهْدٌ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ كَلَامَنَا مَعْرُوفٌ مَفْهُومٌ عِنْدَنَا، وَهَذَا لَيْسَ بِمَفْهُومٍ وَلَا مَعْرُوفٍ، فَلَمْ تَقُمِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فُصِّلَتْ: 44] ، فَجَعَلَ الْحُجَّةَ1 عَلَى فَرْضِ كَوْنِ الْقُرْآنِ أَعْجَمِيًّا، وَلَمَّا قَالُوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النَّحْلِ: 103] ، رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النَّحْلِ: 103] ، لَكِنَّهُمْ أذغنوا لِظُهُورِ الْحُجَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ به وعهدم بِمِثْلِهِ، مَعَ الْعَجْزِ عَنْ مُمَاثَلَتِهِ، وَأَدِلَّةُ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ2.
فَصْلٌ:
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَ لَهَا اعْتِنَاءٌ بِعُلُومٍ ذَكَرَهَا النَّاسُ3، وَكَانَ لِعُقَلَائِهِمِ اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فَصَحَّحَتِ الشَّرِيعَةُ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ وَزَادَتْ عَلَيْهِ، وَأَبْطَلَتْ مَا هُوَ بَاطِلٌ، وَبَيَّنَتْ مَنَافِعَ مَا يَنْفَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَضَارَّ مَا يَضُرُّ منه.
فمن هذه العلوم:
عِلْمُ النُّجُومِ:
وَمَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الِاهْتِدَاءِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ بِاخْتِلَافِ سَيْرِهَا، وَتَعَرُّفِ مَنَازِلِ سَيْرِ النَّيِّرَيْنِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا
__________
1 في "ط": "فجعل لهم الحجة".
2 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "5/ 157".
3 تجد تفصيل هذه العلوم على وجه مستوعب في "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب" لمحمود شكري الآلوسي، وهو مطبوع، وفي آخر المجلد الأول من "صبح الأعشى".

الصفحة 112