كتاب الموافقات (اسم الجزء: 2)

فَصْلٌ:
قَدْ تَبَيَّنَ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَظَهَرَ أَنَّ الْأَقْوَى مِنَ الْجِهَتَيْنِ جِهَةُ الْمَانِعِينَ، فَاقْتَضَى الْحَالُ أَنَّ الْجِهَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعْنَى التَّبَعِيِّ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ زَائِدٍ أَلْبَتَّةَ.
لَكِنْ يَبْقَى فِيهَا نَظَرٌ آخَرُ رُبَّمَا أَخَالُ أَنَّ لَهَا دَلَالَةً عَلَى معانٍ زَائِدَةٍ عَلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، هِيَ آدَابٌ شَرْعِيَّةٌ، وَتَخَلُّقَاتٌ حَسَنَةٌ، يُقِرُّ بِهَا كُلُّ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ، فَيَكُونُ لَهَا اعْتِبَارٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَلَا تَكُونُ الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ خَالِيَةً عَنِ الدَّلَالَةِ جُمْلَةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُشَكَلُ الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَمْثِلَةٍ سَبْعَةٍ:
أَحَدُهَا:
أَنَّ الْقُرْآنَ أَتَى بِالنِّدَاءِ1 مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعِبَادِ، وَمِنَ الْعِبَادِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، إِمَّا حِكَايَةً، وَإِمَّا تَعْلِيمًا، فَحِينَ أَتَى بِالنِّدَاءِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ لِلْعِبَادِ جَاءَ بِحَرْفِ النِّدَاءِ الْمُقْتَضِي لِلْبُعْدِ، ثَابِتًا غَيْرَ مَحْذُوفٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [الْعَنْكَبُوتِ: 56] .
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزُّمَرِ: 53] .
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الْأَعْرَافِ: 158] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الْأَعْرَافِ: 158]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الْبَقَرَةِ: 104] .
فَإِذَا أَتَى بِالنِّدَاءِ مِنَ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، جَاءَ مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ [فَلَا تَجِدُ فِيهِ نِدَاءً بِالرَّبِّ تَعَالَى بِحَرْفِ] نِدَاءٍ ثَابِتٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَرْفَ النِّدَاءِ لِلتَّنْبِيهِ فِي الْأَصْلِ، وَاللَّهُ منزه عن التنبيه.
__________
1 راجع المسألة السابعة من مباحث الكتاب في هذا الموضوع. "د".

الصفحة 163