كتاب الموافقات (اسم الجزء: 2)

فَأَمَّا الثَّانِي: فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِالْعَمَلِ، وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا نَاطِقَةٌ1 بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ هَذَا الْكِتَابِ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ، وَالْقَصْدَانِ لَا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُهُمَا، فَإِنَّ الطَّبِيبَ يَقْصِدُ بِسَقْيِ الدَّوَاءِ الْمُرِّ الْبَشِعِ، وَالْإِيلَامِ بِفَصْدِ الْعُرُوقِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْمُتَأَكِّلَةِ، نَفْعَ الْمَرِيضِ لَا إِيلَامَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ حُصُولِ2 الْإِيلَامِ، فَكَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى مَصَالِحِ الْخَلْقِ بِالتَّكْلِيفِ، فِي الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ يَقْصِدُ بِالتَّكْلِيفِ الْمَصَالِحَ عَلَى الْجُمْلَةِ3، فَالنِّزَاعُ فِي قَصْدِهِ لِلْمَشَقَّةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَكْلِيفًا بِاعْتِبَارِ مَا يَلْزَمُهُ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا يَلْزَمُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الِاسْتِعْمَالِ غَيْرَ مَقْصُودٍ حسبما هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا بَلْ عَلَى حَقِيقَةِ الوضع اللغوي4.
__________
1 مكانها بياض في الأصل.
2 في الأصل: "محصول".
3 ذكر هذا الإجماع أيضا الآمدي في "الإحكام" "3/ 380، 411"، وابن الحاجب في "منتهى الوصول" "ص184"، ونقل الدهلوي في "حجة الله البالغة" "1/ 6" إجماع السلف عليه، وهذا ما تبناه ابن القيم في "إعلام الموقعين" "1/ 196-200"، ودافع عنه بقوة، ومما قال في "مفتاح السعادة" "2/ 22": "والقرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة نحو مئة موضع أو مئتين، لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة"، وانتقد ابن السبكي في "الإبهاج" "3/ 62" الإجماع المذكور.
4 فاللفظ موضوع له وضعا أوليا، بدون ملاحظة علاقة، ولا توقف على قرينة، فيكون حقيقة لا مجازا. "د".
قلت: انظر ما قدمناه قريبا عن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بهذا الخصوص.

الصفحة 218