كتاب الموافقات (اسم الجزء: 2)

وَالثَّانِي:
أَهْلُ إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ، وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَعْمَالِ، غَيْرَ أَنَّ سُقُوطَ حُظُوظِهِمْ لِعُزُوفِ1 أَنْفُسِهِمْ عَنْهَا مَنَعَ الْخَوْفَ عَلَيْهِمْ مِنَ الِانْقِطَاعِ وَكَرَاهِيَةِ الْأَعْمَالِ، وَوَفَّقَهُمْ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْحُقُوقِ، وَأَنْهَضَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا لَمْ يَنْهَضْ بِهِ غَيْرُهُمْ، فَصَارُوا أَكْثَرَ أَعْمَالًا، وَأَوْسَعَ مَجَالًا فِي الْخِدْمَةِ، فَيَسَعُهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ مَا يَسْتَعْظِمُهُ غَيْرُهُمْ وَيَعُدُّهُ فِي خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَأَمَّا أَنَّهُ2 يُمْكِنُهُمُ الْقِيَامُ بِجَمِيعِ مَا كُلِّفَهُ الْعَبْدُ وَنُدِبَ إِلَيْهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَمُتَعَذِّرٌ، إِلَّا فِي الْمَنْهِيَّاتِ، فَإِنَّهُ تَرْكٌ بِإِطْلَاقٍ، وَنَفْيُ أَعْمَالٍ لَا إِعْمَالٍ، وَالنَّفْيُ الْعَامُّ مُمْكِنُ الْحُصُولِ بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ الْعَامِّ، وَلَمَّا سَقَطَتْ حُظُوظُهُمْ صَارَتْ عِنْدَهُمْ لَا تُزَاحِمُ الْحُقُوقَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ: "إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"3، وَحَقُّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَقٌّ لَهُ ضَعِيفٌ عِنْدَهُ أَوْ سَاقِطٌ، فَصَارَ غَيْرُهُ عنده أقوى من حظ نفسه، فحظه إذن4 آخِرُ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَحَقَّةِ، وَإِذَا سَقَطَتِ الْحُظُوظُ لَحِقَ مَا هُوَ بَدَلٌ عَنْهَا5؛ لِأَنَّ زَمَانَ طَلَبِ الْحَظِّ لَا يَبْقَى خَالِيًا، فَدَخَلَ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ كَثِيرٌ، وَإِذَا عَمِلَ عَلَى حَظِّهِ مِنْ حَيْثُ الْأَمْرِ، فَهُوَ عِبَادَةٌ كَمَا سَيَأْتِي، فَصَارَ عِبَادَةً بَعْدَ مَا كَانَ عَادَةً، فَهُوَ سَاقِطٌ مِنْ جِهَتِهِ، ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ كَسَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَمِنْ هُنَا صَارَ مُسْقِطُ الْحَظِّ أَعْبَدَ النَّاسِ، بَلْ يَصِيرُ أَكْثَرُ عَمَلِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَهُنَا مَجَالٌ رَحْبٌ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا.
فَصْلٌ 6:
مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ مَشَقَّةٌ وَهُوَ من
__________
1 كذا في "ط"، وفي غيره: "عزوب".
2 في الأصل و"خ": "أن".
3 مضى تخريجه "ص239"، وهو صحيح.
4 كذا في "ط" وفي غيره: "أيضًا".
5 في "ط": "منها".
6 تكميل للمقام ببيان أن الأعمال المنهي عنها إذا تسبب عنها مشقة، فإن الشارع لا يقصد فيها المشقة أيضا، وإن جاءت في الطريق بسبب المكلف. "د".

الصفحة 255