كتاب الموافقات (اسم الجزء: 2)

الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ وَتَسَبَّبَ عَنْهُ مَشَقَّةٌ فَادِحَةٌ، فَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ التَّسَبُّبِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى ارْتِكَابِ النَّهْيِ إِدْخَالَ الْعَنَتِ وَالْحَرَجِ عَلَى نَفْسِهِ.
إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الشَّرْعِ1 سَبَبًا لِأَمْرٍ شَاقٍّ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ قَصْدٌ مِنَ الشَّارِعِ لِإِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَصْدُ الشَّارِعِ جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ، كَالْقِصَاصِ وَالْعُقُوبَاتِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْأَعْمَالِ الْمَمْنُوعَةِ، فَإِنَّهَا زَجْرٌ لِلْفَاعِلِ، وَكَفٌّ لَهُ عَنْ مُوَاقَعَةِ مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَعِظَةٌ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِهِ أَيْضًا، وَكَوْنُ هَذَا الْجَزَاءِ مُؤْلِمًا وَشَاقًّا مضاهٍ لِكَوْنِ قَطْعِ الْيَدِ الْمُتَأَكِّلَةِ وَشُرْبِ الدَّوَاءِ البشع مُؤْلِمًا وَشَاقًّا، فَكَمَا لَا يُقَالُ لِلطَّبِيبِ: إِنَّهُ قَاصِدٌ لِلْإِيلَامِ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، فَإِنَّ الشَّارِعَ هُوَ الطَّبِيبُ الْأَعْظَمُ.
وَالْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَلَا يُرِيدُ جَعْلَهُ فِيهِ، وَيُشْبِهُ هَذَا مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: "مَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمَوْتِ" 2؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ حَتْمًا عَلَى الْمُؤْمِنِ وَطَرِيقًا إِلَى وُصُولِهِ إِلَى رَبِّهِ، وَتَمَتُّعِهِ بِقُرْبِهِ فِي دَارِ الْقَرَارِ، صَارَ فِي الْقَصْدِ إِلَيْهِ مُعْتَبَرًا، وَصَارَ مِنْ جِهَةِ الْمَسَاءَةِ فِيهِ مَكْرُوهًا3، وَقَدْ يَكُونُ لَاحِقًا بِهَذَا الْمَعْنَى النُّذُورُ الَّتِي يَشُقُّ على الإنسان
__________
1 لعل فيه سقط: "ما يكون" "د".
2 قطعة من آخر حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الرقائق، باب التواضع، 11/ 340-341/ رقم 6502" عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا، وقد استشكل بعضهم "التردد" الوارد في الحديث، وانظر له لزاما: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "18/ 129-131 و 10/ 58-59"، و"السلسلة الصحيحة" "رقم 1640". وفي "ط": "ولا بد منه".
3 أي: غير مقصود ما فيه من جهة المكروهية، ولكنه مقصود من جهة أنه موصل إلى السعادة، وإنما كان شبيها ولم يكن مما تقدم؛ لأنه ليس في موضوع التكاليف الدنيوية. "د".
قلت: وبنحو هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "18/ 129-131 و 10/ 58-59".

الصفحة 256