كتاب الموافقات (اسم الجزء: 2)
لَمْ تَكُنِ الْمُتَابَعَةُ شَرْطًا فِيهَا، وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ فِي شَأْنِ عُمَرَ.
أَلَا تَرَى أَنَّ خَاصِّيَّتَهُ الْمَذْكُورَةَ هِيَ هُرُوبُ الشَّيْطَانِ مِنْهُ، وَذَلِكَ حِفْظٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حَبَائِلِهِ وَحَمْلِهِ إِيَّاهُ عَلَى الْمَعَاصِي، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْحِفْظَ التَّامَّ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ خَاصِّيَّةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذْ كَانَ مَعْصُومًا عَنِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى هُنَا، فَتِلْكَ النُّقْطَةُ الْخَاصَّةُ بِعُمَرَ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ فِرَارَ الشَّيْطَانِ أَوْ بُعده مِنَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْحِفْظُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَقَدْ زَادَتْ مَزِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ خَوَاصُّ:
- مِنْهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقْدَرَهُ اللَّهُ عَلَى تَمَكُّنِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، حَتَّى هَمَّ أَنْ يَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ تَذَّكَّرَ قول سليمان عليه السلام: {هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} 1 [ص: 35] وَلَمْ يَقْدِرْ عُمَرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذلك.
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه "كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَان} 6/ 457/ رقم 3423، وكتاب التفسير، باب {هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} 8/ 546/ رقم 4808"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة 1/ 384/ رقم 541" عن أبي هريرة مرفوعا: "إن عفريتا من الجن تفلَّت عليَّ البارحة -أو كلمة نحوها- ليقطع عليَّ الصلاة، فأمكنني الله منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} ، فردَّه خاسئًا" لفظ البخاري.
الصفحة 441