كتاب الموافقات (اسم الجزء: 2)
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا يَصِحُّ أَنْ تُرَاعَى وتُعتبر، إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ لَا تَخْرِمَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَلَا قَاعِدَةً دِينِيَّةً1، فَإِنَّ مَا يَخْرِمُ قَاعِدَةً شَرْعِيَّةً أَوْ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَيْسَ بِحَقٍّ فِي نَفْسِهِ، بَلْ هُوَ إِمَّا خَيَالٌ أَوْ وَهْمٌ، وَإِمَّا مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ يُخَالِطُهُ مَا هُوَ حَقٌّ وَقَدْ لَا يُخَالِطُهُ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ مِنْ جِهَةِ مُعَارَضَتِهِ لِمَا هُوَ ثَابِتٌ مَشْرُوعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّشْرِيعَ الَّذِي أَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامٌّ لَا خَاصٌّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذَا، وَأَصْلُهُ لَا يَنْخَرِمُ، وَلَا يَنْكَسِرُ لَهُ اطِّراد، وَلَا يُحَاشَى مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِهِ مُكَلَّفٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكُلَّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ مُضَادًّا لِمَا تَمَهَّدَ فِي الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ فَاسِدٌ بَاطِلٌ.
وَمَنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ سُئِلَ عَنْهَا ابْنُ رُشْدٍ فِي حَاكِمٍ شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ مَشْهُورَانِ بِالْعَدَالَةِ فِي أَمْرٍ، فَرَأَى الْحَاكِمُ فِي مَنَامِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "لَا تَحْكُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهَا بَاطِلٌ"، فَمِثْلُ هَذَا مِنَ الرُّؤْيَا لَا مُعْتَبَرَ بِهَا فِي أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، وَلَا بِشَارَةٍ وَلَا نِذَارَةٍ؛ لِأَنَّهَا تَخْرِمُ قَاعِدَةً مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ2، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَأْتِي مِنْ هَذَا النَّوْعِ.
__________
1 انظر تقعيد ذلك والأدلة عليه في: "الاعتصام" "2/ 153، وما بعدها" للمصنف، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" "2/ 226، 227، 10/ 473-474 و13/ 73-176 و20/ 45 و11/ 77، 208-210، و20/ 42-47"، و"شرح العقيدة الطحاوية" "ص498، 500" و"مدارج السالكين" "3/ 228"، و"شرح مراقي السعود" "288"، وأضواء البيان" "4/ 159"، و"قطر الولي" "ص252"، و"الجامع لأخلاق الراوي" "1/ 80"، و"الفروق" "4/ 244"، و"فتح الباري" "12/ 388"، و"إرشاد الفحول" "249"، و"قواعد التحديث" "ص149"، و"أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "2/ 146" للأشقر، و"مشتهى الخارف الجاني" "ص268".
2 انظر نص فتوى ابن رشد في "فتاويه" "1/ 611-612"، ونقله عنه الونشريسي في "المعيار المعرب" "10/ 217-218"، وانظر في المسألة أيضا: "البحر المحيط" "1/ 62-63" للزركشي، و"الاعتصام" للمصنف "1/ 262-263"-ط رشيد رضا و1/ 334-335، ط ابن عفان"، وذكر فيه ما حكاه عن ابن رشد.
الصفحة 457