كتاب الموافقات (اسم الجزء: 2)
عُلُوًّا كَبِيرًا1
فَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَصْدِ الْخَلْقِيِّ التَّكْوِينِيِّ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْقَصْدِ التَّشْرِيعِيِّ، وَقَدْ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الخلق بإطلاق2 حسبما تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ، فَكُلُّ مَا شُرِعَ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ فَغَيْرُ مَقْصُودٍ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا [فِي] الْوُجُودِ3، فَبِالْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ وَعَنِ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ، لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَحُكْمُ التَّشْرِيعِ أَمْرٌ آخَرُ، لَهُ نَظَرٌ وَتَرْتِيبٌ آخَرُ عَلَى حَسَبِ مَا وَضَعَهُ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا يَسْتَلْزِمَانِ إِرَادَةَ الْوُقُوعِ، أَوْ عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَبُطْلَانُهُ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَالْقَصْدُ التَّشْرِيعِيُّ شَيْءٌ، وَالْقَصْدُ الْخُلُقِيُّ شَيْءٌ آخَرُ، لَا مُلَازَمَةَ بَيْنِهِمَا.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْمَفْسَدَةُ خَارِجَةً4 عَنْ حُكْمِ الِاعْتِيَادِ، بِحَيْثُ لَوِ انْفَرَدَتْ لَكَانَتْ مَقْصُودَةَ الِاعْتِبَارِ لِلشَّارِعِ، فَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَمْثِيلِ ذَلِكَ ثُمَّ تَخْلِيصِ الْحُكْمِ فيه بحول الله.
__________
1 حكى صاحب "إيثار الحق على الخلق" [ص 277] أن الشهرستاني ذكر في كتاب "نهاية الإقدام" أن إرادة الله لا يصح أن تتعلق إلا بأفعاله دون كسب العباد من طاعة أو معصية، ولكن المعروف من مذهب الأشاعرة أن الإرادة تتعلق بالمعاصي، ولما ورد عليهم أن الله تعالى يقول: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} ، والمكروه لا يكون مرادا، أجابوا بأن الكراهة تتعلق بذوات المعاصي الصادرة عن العصاة، والإرادة تتوجه إليها من جهة الحكمة المترتبة عليها. "خ".
2 في "ط": "على الإطلاق".
3 في "د": "بالوجود".
4 أي: بأن تكون مترددة بين الطرفين، وتعارضت فيها الأدلة، "د".
الصفحة 50