كتاب الموافقات (اسم الجزء: 2)

نُزُولًا عَنْ رُتْبَتِهِ الْعُلْيَا إِلَى مَا دُونَهَا، بَلْ هِيَ أَعْلَى.
وَمَا ذُكِرَ مِنْ اسْتِوَاءِ الْعَوَائِدِ وَعَدَمِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، فَذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْعَوَائِدِ عَلَى مُقْتَضَاهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ كَانُوا حَازُوا رُتْبَةَ التوكُّل، وَرُؤْيَةَ إِنْعَامِ الْمُنْعَمِ مِنَ الْمُنْعِمِ لَا مِنَ السَّبَبِ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَتْرُكُوا الدُّخُولَ فِي الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي نُدِبوا إِلَيْهَا، وَلَمْ يَتْرُكْهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي تُسْقِطُ حُكْمَ الْأَسْبَابِ وَتَقْضِي بِانْخِرَامِ الْعَوَائِدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا الْعَزَائِمُ الَّتِي جَاءَ الشَّرْعُ بِهَا؛ لِأَنَّ حَالَ انْخِرَاقِ الْعَوَائِدِ لَيْسَ بِمَقَامٍ يُقَامُ فِيهِ، وَإِنَّمَا مَحَلُّهُ مَحَلُّ الرُّخْصَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "قَيِّدْهَا وتَوَكَّلْ" 1.
وَقَدْ كَانَ المُكمَّلون مِنَ الصُّوفِيَّةِ يَدْخُلُونَ فِي الْأَسْبَابِ تأدُّبًا بِآدَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَنَظَرًا إِلَى أَنَّ وَضْعَ اللَّهِ تَعَالَى أَحْوَالَ الْخَلْقِ عَلَى الْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ يُوَضِّحُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ الدُّخُولُ تَحْتَ أَحْكَامِ الْعَوَائِدِ، وَلَمْ يَكُونُوا لِيَتْرُكُوا الْأَفْضَلَ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا قِصَّةٌ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْلُهُ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الْكَهْفِ: 82] ، فَيُظْهِرُ بِهِ أَنَّهُ نَبِيٌّ2، وَذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ اسْتِدْلَالًا بِهَذَا الْقَوْلِ، وَيَجُوزُ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَى الْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ، وَإِنْ سَلِمَ؛ فَهِيَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ وَلِأَمْرٍ مَا3، وَلَيْسَتْ جَارِيَةً على شرعنا، والدليل على ذلك
__________
1 مضى تخريجه "1/ 304"، وهو حديث حسن.
2 قال: ابن حجر في كتابه "الزهر النضر في نبأ الخضر" "2/ 234- مع الرسائل المنيرية"، و"الذي لا يتوقف فيه الجزم بنبوته" وقال أيضا: "وكان بعض أكابر العلماء يقول: أول عقدة تحل من الزندقة، اعتقاد كون الخضر نبيًّا؛ لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النبي". وانظر ما قدمناه في التعليق على "ص463 وما بعدها" عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
3 سيشير إليه بقوله: "وعلى مقتضى عتاب موسى.... إلخ".

الصفحة 507