كتاب الموافقات (اسم الجزء: 3)

يَشْهَدُ لَهَا مَسْلَكٌ مِنَ الْمَسَالِكِ؛ فَصَحَّ أَنَّ التَّعَدِّيَ لِغَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ.
فهذان المسلكان كِلَاهُمَا مُتَّجِهٌ فِي الْمَوْضِعِ1؛ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ بِأَنَّ التَّعَدِّيَ الْمَفْرُوضَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَيَقْتَضِي هَذَا إِمْكَانَ أَنَّهُ مُرَادٌ؛ فَيَبْقَى النَّاظِرُ بَاحِثًا حَتَّى يَجِدَ مَخْلَصًا؛ إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ مَقْصُودًا لَهُ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي جَزْمَ الْقَضِيَّةِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ؛ فَيَنْبَنِي عَلَيْهِ2 نَفْيُ التَّعَدِّي مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَيُحْكَمُ بِهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا بِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا لَنَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَلَمَّا لَمْ نَجِدْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَإِنْ أَتَى مَا يُوَضِّحُ خِلَافَ الْمُعْتَقَدِ رُجِعَ إِلَيْهِ، كَالْمُجْتَهِدِ يَجْزِمُ الْقَضِيَّةَ فِي الْحُكْمِ ثُمَّ يَطَّلِعُ بَعْدُ عَلَى دَلِيلٍ يَنْسَخُ حزمه3 إِلَى خِلَافِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهُمَا مَسْلَكَانِ مُتَعَارِضَانِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ، وَالْآخَرَ لَا يَقْتَضِيهِ، وَهُمَا فِي النَّظَرِ سَوَاءٌ4، فَإِذَا اجْتَمَعَا تَدَافَعَا أَحْكَامَهُمَا؛ فَلَا يَبْقَى إِلَّا التَّوَقُّفُ وَحْدَهُ؛ فَكَيْفَ يَتَّجِهَانِ مَعًا؟
فَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا قَدْ يَتَعَارَضَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ؛ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ لِأَنَّهُمَا كَدَلِيلَيْنِ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَيَتَفَرَّعَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى مَسْأَلَةِ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ، وَقَدْ لَا يَتَعَارَضَانِ بِحَسَبِ مُجْتَهِدَيْنَ أَوْ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتَيْنِ أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ؛ فَيَقْوَى عِنْدَهُ مَسْلَكُ التَّوَقُّفِ فِي مَسْأَلَةٍ، وَمَسْلَكُ النَّفْيِ فِي مسألة أخرى؛ فلا تعارض على الإطلاق.
__________
1 في نسخة "ماء/ ص248": "الوضع" من غير ميم.
2 في الأصل و"خ" و"ط": "على".
3 في الأصل و"ط": "جزمه".
4 أي: وحينئذ؛ فلا يبنى عليهما حكم، ولا يكون لها ثمرة؛ لأنهما متعارضان مع التساوي، فلا يتأتى ترجيح؛ فيسقطان؛ فكيف يتأتى الانتفاع بهما والعمل بمقتضاهما؟ "د".

الصفحة 137