كتاب الموافقات (اسم الجزء: 3)

فِي مَعْنَاهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كُلِّ فِعْلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّعَبُّدِيَّاتِ من حيث هي تعبديات؛ كُلَّهَا الدَّاخِلَةَ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ لَا تَصِيرُ تَعَبُّدِيَّةً إِلَّا مَعَ الْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ، أَمَّا مَا وُضِعَ عَلَى التَّعَبُّدِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا؛ فَلَا إشكال فيه، وأما العادايات، فَلَا تَكُونُ تَعَبُّدُيَّاتٍ إِلَّا بِالنِّيَّاتِ، وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ شَيْءٌ إِلَّا النَّظَرُ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ إِمْكَانِهِ، لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ قَصْدَ التَّعَبُّدِ فِيهِ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ أَلْبَتَّةَ، بِنَاءً عَلَى مَنْعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، أَمَّا تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِنَفْسِ الْعَمَلِ1؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ قَادِرٌ عَلَيْهِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَحْصِيلِهِ، بِخِلَافِ قَصْدِ التَّعَبُّدِ بِالْعَمَلِ؛ فَإِنَّهُ مُحَالٌ، فَصَارَ فِي عِدَادِ مَا لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ تَتَضَمَّنْهُ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى طَلَبِ هَذَا الْقَصْدِ أَوِ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا.
وَالثَّانِي: مِنْ وَجْهَيِ الْجَوَابِ بِالْكَلَامِ عَلَى تَفَاصِيلِ مَا اعْتُرِضَ بِهِ.
فَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ؛ فَمَا كَانَ مِنْهَا غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إِلَى نِيَّةِ التَّعَبُّدِ وقصد امتثال الأمر؛ فلا يصح في عِبَادَةٌ2، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ حَصَلَتْ فَائِدَتُهُ فَتَسْقُطُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ شَرْعًا؛ كَأَخْذِ3 الْأَمْوَالِ مِنْ أَيْدِي الْغُصَّابِ، وَمَا افْتَقَرَ مِنْهَا إِلَى نِيَّةِ التَّعَبُّدِ؛ فلا يجزيء فِعْلُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكْرَهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ حتى ينوي القربة4 كالإكراه
__________
1 الذي هو النظر؛ فهنا عمل وهو النظر الموصل للمعرفة وهو ممكن؛ فيتوجه التكليف به، وأما قصد الامتثال بهذا النظر؛ فغير ممكن لأنه لا يكون قصد الامتثال لأمر الله إلا بعد معرفة الله بهذا بالنظر؛ فصار القصد غير ممكن؛ فلا يخاطب به. "د".
2 في الأصل و"ط": "عادة".
3 في الأصل: "لأخذ".
4 قرر ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" "26/ 30" الإجماع على أن الذي يؤدي العبادة خوفا من الضرب أو من السلطان، أو تقليدا للآباء والأجداد لا تقبل منه.

الصفحة 18