كتاب الموافقات (اسم الجزء: 3)

لَمْ تبقَ مَصَالِحَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ حالة الانفراد، فاستقرت الحال فيها عَلَى وَجْهِ اسْتِقْرَارِهَا فِي اجْتِمَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ فَاسْتَوَيَا فِي تَنَافِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّ النَّهْيَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ، وَالْأَمْرَ يَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ، وَاجْتِمَاعُهُمَا يُؤَدِّي إِلَى الِامْتِنَاعِ كَمَا مَرَّ؛ فَامْتَنَعَ مَا كَانَ مِثْلُهُ.
وَأَصْلُ هَذَا نَهِيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ1؛ لِأَنَّ بَابَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي الْمُغَابَنَةَ وَالْمُكَايَسَةَ، وَبَابُ السَّلَفِ يَقْتَضِي الْمُكَارَمَةَ وَالسَّمَاحَ وَالْإِحْسَانَ، فَإِذَا اجْتَمَعَا دَاخَلَ السَّلَفَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْبَيْعِ؛ فَخَرَجَ السَّلَفُ عَنْ أَصْلِهِ؛ إِذْ كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ نَسِيئَةً، فَرَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ الْمُسْتَثْنَى2 مِنْهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَا اسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ الصَّرْفُ3 أَصْلُهُ الْمُغَابَنَةُ وَالْمُكَايَسَةُ، وَالْمُكَايَسَةُ فِيهِ وَطَلَبُ الرِّبْحِ مَمْنُوعَةٌ، فَإِذَا رَجَعَ السَّلَفُ إِلَى أَصْلِهِ بِمُقَارَنَةِ الْبَيْعِ؛ امتنع من وجهتين4:
إِحْدَاهُمَا: الْأَجَلُ الَّذِي فِي السَّلَفِ.
وَالْأُخْرَى: طَلَبُ الرِّبْحِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْمُكَايَسَةُ أَنَّهُ لَمْ يَضُمَّ إِلَى الْبَيْعِ إِلَّا وَقَدْ دَاخَلَهُ فِي قَصْدِ الِاجْتِمَاعِ ذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَعَلَى هَذَا يَجْرِي الْمَعْنَى فِي إِشْرَاكِ الْمُكَلِّفِ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهَا مِمَّا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ؛ إِمَّا وُجُوبًا، أَوْ نَدْبًا، أَوْ إِبَاحَةً5 إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَبَعًا6 للآخر،
__________
1 مضى تخريجه "ص468".
2 في "ط": "مستثنى منه".
3 صوابه البيع، وقوله: "والمكايسة فيه"؛ أي: في السلف. "د".
4 في "د": "جهتين".
5 لا يظهر عطفه على ما قبله إلا على اصطلاحه في المسألة قبلها. "د".
6 كالتبرد والنظافة وإيقاظ الحواس مع رفع الحدث بالوضوء والغسل، وكالحمية مع العبادة بالصوم، والصحة مع تأدية الفريضة في السفر للحج، وهكذا مما كان شأنه التبعية للعبادة في القصد، وقد تقدم له الخلاف بين ابن العربي والغزالي في خروج العبادة عن الإخلاص وعدمه، بناء =

الصفحة 478