كتاب الموافقات (اسم الجزء: 3)

سَوَابِقِهِ وَلَا فِي لَوَاحِقِهِ وَلَا فِي قَرَائِنِهِ، فَإِذَا أَخَذَ عَلَى ذَلِكَ الْوِزَانِ؛ كَانَ مُبَاحًا بِالْجُزْءِ مَطْلُوبًا بِالْكُلِّ، فَإِنَّ الْمُبَاحَاتِ إِنَّمَا وَضَعَهَا الشَّارِعُ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى وَفْقِ الْمَصَالِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بِحَيْثُ لَا تَقْدَحُ فِي دُنْيَا وَلَا فِي دِينٍ، وَهُوَ الِاقْتِصَادُ فِيهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ جُعِلَتْ نِعَمًا، وَعُدَّتْ مِنَنًا، وَسُمِّيَتْ خَيْرًا وَفَضْلًا.
فَإِذَا خَرَجَ الْمُكَلَّفُ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الحد [إلى] أن تكون1 ضرارًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الدِّينِ؛ كَانَتْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مَذْمُومَةً لِأَنَّهَا صَدَّتْ عَنْ مُرَاعَاةِ وُجُوهِ الْحُقُوقِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ وَالْمُقَارِنَةِ أَوْ عَنْ بَعْضِهَا؛ فَدَخَلَتِ الْمَفَاسِدُ بَدَلًا عَنِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا سَبَبُ ذَلِكَ تَحَمُّلُ الْمُكَلَّفِ مِنْهَا مَا لَا يَحْتَمِلُهُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يَكْتَفِي مِنْهَا بِوَجْهٍ مَا2، أَوْ بِنَوْعٍ مَا، أَوْ بِقَدْرٍ مَا، وَكَانَتْ مَصَالِحُهُ تُجْرَى عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ زَادَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا فَوْقَ مَا يُطِيقُهُ تَدْبِيرُهُ وَقُوَّتُهُ الْبَدَنِيَّةُ وَالْقَلْبِيَّةُ؛ كَانَ مُسْرِفًا، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ عَنْ حَمْلِ الْجَمِيعِ؛ فَوَقَعَ الِاخْتِلَالُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ؛ كَالرَّجُلِ يَكْفِيهِ لِغِذَائِهِ مَثَلًا رَغِيفٌ، وَكَسْبُهُ الْمُسْتَقِيمُ إِنَّمَا يَحْمِلُ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ لِأَنَّ تَهْيِئَتَهُ لَا تَقْوَى عَلَى غَيْرِهِ؛ فَزَادَ عَلَى الرَّغِيفِ مِثْلَهُ؛ فَذَلِكَ إِسْرَافٌ مِنْهُ فِي جِهَةِ اكْتِسَابِهِ أَوَّلًا مِنْ حَيْثُ كَانَ يَتَكَلَّفُ كُلْفَةَ مَا يَكْفِيهِ مَعَ التَّقْوَى، فَصَارَ يَتَكَلَّفُ كُلْفَةَ اثْنَيْنِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْمُخَالَفَةِ، وَفِي جِهَةِ تَنَاوُلِهِ؛ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ نَفْسَهُ مِنَ الْغِذَاءِ فَوْقَ مَا تَقْوَى عَلَيْهِ الطِّبَاعُ فَصَارَ [ذَلِكَ] شَاقًّا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا ضَاقَ نَفْسُهُ وَاشْتَدَّ كَرْبُهُ، وَشَغَلَهُ عَنِ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ الْمَطْلُوبِ فِيهَا الْحُضُورُ مَعَ الله تعالى،
__________
1 كذا في "ط" والأصل، وفي "د" و"ف" و"م": "بأن تكون"، وصوب "ف" المثبت.
2 أي: من وجوه الكسب مثلًا في صنعة لها فروع متعددة، وقوله: "أو بنوع" كتجارة مثلًا، وقوله: "بقدر" بأن كان يكفيه من الأول أو الثاني حد فيتعلق في كل منهما بما هو خارج عن كفايته، مع كونه لا يحتمله استعداده، ومثله تعدد الزوجات وتنوع المآكل والملابس والمساكن ومقادير ذلك وهكذا. "د".

الصفحة 504