كتاب الموافقات (اسم الجزء: 3)
وَهَكَذَا غَيْرُهُ، وَكَانُوا [عُلَمَاءَ، وَفُقَهَاءَ، وَأَوْلِيَاءَ، وَمُثَابِرِينَ عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ وَطَلَبِ الْمَثُوبَاتِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَهُ دَلِيلٌ فِي الشَّرِيعَةِ؛ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ] 1: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقُطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ" 2، وَسَائِرُ مَا جَاءَ فِي طَلَبِ الْعُزْلَةِ3، وَهَى مُتَضَمِّنَةٌ لِتَرْكِ كَثِيرٍ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ بِالْكُلِّ أَوْ بِالْجُزْءِ نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا، خَادِمًا لِمَطْلُوبٍ أَوْ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ؛ فَكَيْفَ بِالْمُبَاحِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُرَدُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّا إِنَّمَا تَكَلَّمْنَا فِي جَوَازِ الْمُخَالَطَةِ فِي طَلَبِ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ وَغَيْرِهَا4، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى أَحَدِ الْجَائِزَيْنِ؛ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَيْنَا مَا هُوَ مَطْلُوبٌ بِالْجُزْءِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَعَرَّضْ5 فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلنَّظَرِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا وَقَعَ التَّحْذِيرُ فِيهِ وَمَا فَعَلَ السَّلَفُ مِنْ ذَلِكَ إنما هو بناء على
__________
1 سقط من "ط".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتن، 1/ 69/ رقم 19" عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وفيه: " ... أن يكون خير مال المسلم غنم ... ".
قال "ف": "شعف الجبال؛ أي: رءوسها، والمراد بمواقع القطر: الأودية والصحاري".
3 كما تراه في كتاب "العزلة" للخطابي، و"الرسالة المغنية في السكون ولزوم البيوت" لابن البناء البغدادي "ت471هـ"، و"الأمر بالعزلة في آخر الزمان" لابن الوزير "ت 840هـ"، وكلها مطبوعة.
4 أي: من الحاجية، وهي التي يؤدي الكف عنها إلى ضيق وحرج. "د".
قال "ف": "ولعله: لا عن غيرها، فتأمل".
5 انظره في قوله: "لَا بُدَّ لَهُ مِنِ اقْتِضَاءِ حَاجَاتِهِ كَانَتْ مطلوبة بالجزء أو بالكل"، قوله: "وَهَكَذَا النَّظَرُ فِي الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ بِالْأَصْلِ كُلِّهَا"، وجعله ما فيه السعة محل نظر، يجري فيه الخلاف في سد الذرائع ومسألة تعارض الأصل والغالب، وهل يقال: إن الحاجات الضرورية ليست مما يطلب بالجزء، وكذلك الحاجية المؤدية إلى الضيق والحرج الفادح. "د".
الصفحة 530