كتاب الموافقات (اسم الجزء: 3)
الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَى تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ1 مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمُ الْأَمَانَةُ، وَقَدْ زَادُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا رَضِيَ أَهْلُهُ وَمَا لَا، وَذَلِكَ يَقْضِي بِتَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الْعُمُومِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْخُصُوصِ، لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ الْخُصُوصَ مَضَرَّةٌ2.
وَأَمَّا الرَّابِعُ:
فَإِنَّ الْمَوْضِعَ فِي الْجُمْلَةِ يَحْتَمِلُ نَظَرَيْنِ: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْحُظُوظِ، وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ إِسْقَاطِهَا، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْحُظُوظَ؛ فَإِنَّ حَقَّ الْجَالِبِ أَوِ الدَّافِعِ مُقَدَّمٌ وَإِنِ اسْتَضَرَّ غَيْرُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ دَفْعَ الْمَضَرَّةَ مَطْلُوبٌ لِلشَّارِعِ مَقْصُودٌ، وَلِذَلِكَ أُبِيحَتِ الْمَيْتَةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْأَكْلِ، وَأُبِيحَ الدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ إِلَى أَجَلٍ لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ لِلْمُقْرِضِ، وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِبَادِ، وَالرُّطَبُ بِالْيَابِسِ فِي الْعَرِيَّةِ، لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ فِي طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرَةٍ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَمَا سَبَقَ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ حَقُّهُ فِيهِ شَرْعًا، بِحَوْزِهِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَسَبْقُهُ إِلَيْهِ لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ لِلشَّارِعِ؛ فَصَحَّ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ تَقْدِيمَ حَقِّ الْمَسْبُوقِ عَلَى حَقِّ السَّابِقِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ شَرْعًا إِلَّا مَعَ إِسْقَاطِ السَّابِقِ لحقه، وذلك لا يلزمه، بل قد
__________
1 لو لم يقع تضمينهم لادعى بعضهم التلف، فضاعت حقوق الناس، وانظر النقولات عن السلف في: "مصنف عبد الرزاق" "8/ 216-223"، و"مسائل الكوسج".
2 أي: مضرة لا تنجبر أما أصلها؛ فهو الفرض". "د".
قلت: ومثله منع التجار من احتكار ما يحتاج إليه الناس، ويؤمرون ببيعه بثمن المثل، وإلا بيع عليهم جبرا، والحجر على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس أو المتعهد بتأجير المواصلات وغيرها، ومنع الأفراد من إقامة فرن للخبز في سوق البزازين، على ما ذكر ابن نجيم ونحوه إقامة مصنع للإسمنت في وسط حي للسكان. انظر هذه الأمثلة وغيرها في "إعلام الموقعين" "3/ 138-139"، و"الطرق الحكمية" "302-307"، و"فتاوى ابن رشد" "1/ 262-265"، و"المعيار المعرب" "1/ 243-246"، و"غمز عيون البصائر" "1/ 122"، و"تبصرة الحكام" "2/ 347"، و"نظرية التعسف في استعمال الحق" "ص236-237".
الصفحة 58