كتاب الموافقات (اسم الجزء: 4)
الْجَاهِلُ مِنْهَا الْوُجُوبَ، إِذَا كَانَ مَنْظُورًا إِلَيْهِ مَرْمُوقًا، أَوْ مَظِنَّةً لِذَلِكَ، بَلِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَعَهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْوَاجِبِ الْمُكَرَّرِ الِالْتِزَامُ وَالدَّوَامُ عَلَيْهِ فِي أَوْقَاتِهِ، بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ خَاصِّيَّةَ الْمَنْدُوبِ عَدَمُ الِالْتِزَامِ، فَإِذَا الْتَزَمَهُ فَهِمَ النَّاظِرُ مِنْهُ نَفْسَ الْخَاصِّيَّةِ الَّتِي لِلْوَاجِبِ؛ فَحَمَلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَضَلَّ.
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ تَتَأَتَّى عَلَى كَيْفِيَّاتٍ يُفْهَمُ مِنْ بَعْضِهَا فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهَا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْأُخْرَى، أَوْ ضُمَّتْ عِبَادَةٌ أَوْ غَيْرُ عِبَادَةٍ إِلَى الْعِبَادَةِ قَدْ يُفْهَمُ بِسَبَبِ الِاقْتِرَانِ مَا لَا يُفْهَمُ دُونَهُ، أَوْ كَانَ الْمُبَاحُ يَتَأَتَّى فِعْلُهُ عَلَى وُجُوهٍ؛ فَيُثَابَرُ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ تَحَرِّيًا لَهُ وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُ، أَوْ يَتْرُكُ بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، بِحَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ فِي التَّرْكِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ.
وَلِذَلِكَ لَمَّا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ النَّاسُ، قَرَأَهَا فِي كَرَّةٍ أُخْرَى، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ مَوْضِعِهَا تَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ؛ فَلَمْ يَسْجُدْهَا، وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ" 1.
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْوُضُوءِ؛ فَقَالَ: "أَيُحِبُّ أَنْ يَذْبَحَ؟ "2 إِنْكَارًا لِمَا يُوهِمُهُ سُؤَالُهُ مِنْ تَأْكِيدِ الطلب فيها عند الوضوء.
__________
1 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب سجود القرآن، باب من رأى أن الله -عز وجل- لم يوجب السجود، 2/ 557/ رقم 1077".
2 المشهور عن مالك أنه كان يقول هذه المقولة في الجهر بالتسمية في الصلاة، وليس في الوضوء؛ إذ هي مستحبة عنده فيه، ثم رأيت القرافي في "الذخيرة" "1/ 284" يقول عن التسمية في الوضوء: "استحسنها مالك -رحمه الله- مرة، وأنكرها مرة، وقال: أهو يذبح؟ ما علمت أحدًا يفعل"، وانظر: "عقد الجواهر الثمينة" "1/ 44".
الصفحة 119