كتاب الموافقات (اسم الجزء: 4)

المسألة الثالثة:
فَنَقُولُ: إِذَا كَانَ الْبَيَانُ يَتَأَتَّى بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ؛ فلا بد أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَالِمِ، كَمَا حَصَلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهَكَذَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِمَّنْ صَارَ قُدْوَةً فِي النَّاسِ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ، حَسْبَمَا يَتَبَيَّنُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ عَلَى أَثَرِ هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ؛ فَلَا نَطُولُ بِهِ ههنا لأنه تكرار.
المسألة الرابعة:
إِذَا حَصَلَ الْبَيَانُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الْمُطَابِقِ لِلْقَوْلِ؛ فَهُوَ الْغَايَةُ فِي الْبَيَانِ، كَمَا إِذَا بَيَّنَ الطَّهَارَةَ أَوِ الصَّوْمَ أَوِ الصَّلَاةَ أَوِ الْحَجَّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَوِ الْعَادَاتِ، فَإِنْ حَصَلَ بِأَحَدِهِمَا فَهُوَ بَيَانٌ أَيْضًا؛ إِلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ قَاصِرٌ عَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ مِنْ وَجْهٍ، بَالِغٌ أَقْصَى الْغَايَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
فَالْفِعْلُ بَالِغٌ مِنْ جِهَةِ بَيَانِ الْكَيْفِيَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا الْبَيَانُ الْقَوْلِيُّ1؛ وَلِذَلِكَ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام الصلاة بفعله لأمته، كما فعل
__________
1 أحال المصنف على هذا المبحث في كتابه "الاعتصام" "2/ 595, ط ابن عفان"، فقال: " ... والفعل أغلب من القول من جهة التأسي، كما تبين في كتاب "الموافقات"، وانظر لطائف وفوائد في هذا عند ابن القيم في "مدارج السالكين "1/ 446 وما بعدها, ط الفقي".
ومن الجدير بالملاحظة هنا أن اجتماع أنواع أخرى من البيان مع القول والفعل يكون به أقوى، وأهم ذلك التقرير؛ فإنه يدل على رضا المبين عن الصورة الذهنية التي حصلت لدى المبين له؛ فإن البيان قد يكون وافيًا، ولكن أفهام بعض السامعين تقصر أو تغفل، فإن عمل المبين له بما بين؛ فوافقه المبين، وأقره فذلك أقوى ما يكون البيان. انظر: "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 105".

الصفحة 79