فَصْلٌ:
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، لَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ1 الْقَوْلِ بِالتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْبَيَانَيْنِ؛ فَلَا يُقَالُ: أَيُّهُمَا أَبْلَغُ فِي الْبَيَانِ؛ الْقَوْلُ، أَمِ الْفِعْلُ؟ إِذْ لَا يَصْدُقَانِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ إِلَّا فِي الْفِعْلِ الْبَسِيطِ الْمُعْتَادِ مِثْلِهِ إِنِ اتَّفَقَ؛ فَيَقُومُ أَحَدُهُمَا2 مَقَامَ الْآخَرِ، وَهُنَالِكَ يُقَالُ: أَيُّهُمَا أَبْلَغُ، أَوْ أَيُّهُمَا أَوْلَى؟ كَمَسْأَلَةِ الْغُسْلِ مِنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ مَثَلًا؛ فَإِنَّهُ بَيِّنٌ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ3 وَمِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ4 عِنْدَ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ المسألة من ذلك،
__________
1 أي: كما ذكره الأصوليون؛ فقائل يرجع الفعل لأنه أقوى في الدلالة على المقصود وليس الخبر كالمعاينة والمشاهدة، وقائل بل يقدم القول لأنه يدل بنفسه على المقصود، أما الفعل؛ فلا يدل إلا بأحد أمور ثلاثة تفيد أن الفعل بيان للمجمل هي العقل، أو النص على أن هذا الفعل بيان للمجمل، أو أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده، هذا إذا اجتمع القول والفعل واختلفا، أما إذا اجتمعا وتوافقا؛ فالسابق منهما هو البيان، والثاني مؤكد له، هذا محصول كلامهم، ولم ينح نحو مبحثه الذي تجلى به أن كلًّا منهما له جهة يكون فيها أقوى بيانًا من الآخر. "د".
قلت: رجح أبو الحسين البصري الفعل بقوله في "المعتمد" "340": "إن الفعل أكشف" لأنه ينبئ عن صفة المبين مشاهدة، وانظر تفصيلًا حسنًا مع الأدلة حول القوة والوضوح بين البيان القولي والبيان الفعلي في "أفعال الرسول, صلى الله عليه وسلم" "1/ 99-103"، وانظر: "تيسير التحرير" "3/ 148-149"، و"حاشية البناني على جمع الجوامع" 2/ 100"، و" إحكام الأحكام" "3/ 34" للآمدي، و"شرح تنقيح الفصول" "ص123، 124"، و"أصول السرخسي" "2/ 27".
2 على أن القول في هذه الصورة إنما قام مقام الفعل لأن مثله معتاد؛ فحصول البيان فيه بالفعل مع القول أو بالفعل نفسه كما قال سابقًا. "د".
3 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء"، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 272/ رقم 350" عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: إن رجلًا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل؛ هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة. فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل".
4 أخرج مسلم في "صحيحه" "كتاب الحيض، باب نسخ "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، 1/ 271-272/ رقم 349" عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان؛ فقد وجب الغسل".