كتاب الموافقات (اسم الجزء: 5)

وَالرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ مُورِثٌ لِلتَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ بَيْنَ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ، وَرُبَّمَا نَشَأَ الصَّغِيرُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَرْسُخَ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ بُغْضُ مَنْ خَالَفَهُمْ فَيَتَفَرَّقُوا شِيَعًا، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 105] .
وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} [الْأَنْعَامِ: 159] .
وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قبلُ؛ فَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى هَذَا مَمْنُوعٌ؛ فَالتَّرْجِيحُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى افْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ وَحُدُوثِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مَمْنُوعٌ.
وَنَقَلَ الطَّبَرِيُّ1 عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -وَإِنْ لَمْ يُصَحِّحْ سَنَدَهُ2 - أَنَّهُ لَمَّا أَرْسَلَ الْحُطَيْئَةَ مِنَ الحبس في هجائه3 الزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ؛ قَالَ لَهُ: "إِيَّاكَ وَالشِّعْرَ. قَالَ: لَا أَقْدِرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَرْكِهِ، مَأْكَلَةُ عِيَالِي وَنَمْلَةٌ عَلَى لِسَانِي4. قَالَ: فَشَبِّبْ بِأَهْلِكَ، وَإِيَّاكَ وَكُلَّ مِدْحَةٍ مُجْحِفَةٍ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَقُولُ بَنُو فُلَانٍ خَيْرٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، امْدَحْ وَلَا تُفَضِّلْ. قَالَ: أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْعَرُ مِنِّي".
فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ وَإِلَّا فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْمَدْحَ إِذَا أَدَّى إِلَى ذَمِّ الْغَيْرِ كَانَ مُجْحِفًا، وَالْعَوَائِدُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ الطَّعْنَ وَالتَّقْبِيحَ فِي مَسَاقِ الرَّدِّ أَوِ التَّرْجِيحِ رُبَّمَا أدى إلى
__________
1 في كتابه "تهذيب الآثار" "2/ 2/ 20/ رقم 2718"؛ قال: ثنا الزبير بن بكار: ثني محمد بن الضحاك بن عثمان، عن أبيه؛ قال: "لما أرسل عمر...."، والخبر مرسل، بل معضل؛ فإسناده ضعيف.
2 الصواب أنه سكت عليه، ولم يضعفه.
3 في الأصل والنسخ المطبوعة كلها: "هجاء"، والتصويب من "تهذيب الآثار" و"ط".
4 أي: قرحة فيه لا تنفك عنه. "ف" و"م".

الصفحة 288