كتاب الموافقات (اسم الجزء: 5)

كُلِّيٍّ وَاحِدٍ وَكَانَ مَوْضُوعُهُمَا وَاحِدًا؛ إِلَّا أَنَّ لَهُ اعْتِبَارَيْنِ.
فَالْجُزْئِيَّانِ أَمْثِلَتُهُمَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ مَرَّ مِنْهَا1 وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَيْلُ وَنَحْوُهُ فِي تَحْدِيدِ طَلَبِ الْمَاءِ لِلطُّهُورِ؛ فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَشَقَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ فَيُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَا يَشُقُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آخَرَ فَيُمْنَعُ مِنَ التَّيَمُّمِ؛ فَقَدْ تَعَارَضَ عَلَى الْمَيْلِ دَلِيلَانِ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصَيْنِ، وَهَكَذَا رُكُوبُ الْبَحْرِ2 يُمْنَعُ مِنْهُ بَعْضٌ وَيُبَاحُ لِبَعْضٍ، وَالزَّمَانُ وَاحِدٌ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ظَنِّ السَّلَامَةِ وَالْغَرَقِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا التَّعَارُضُ فِي الْكُلِّيَّيْنِ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ؛ فَلْنَذْكُرْ لَهُ مِثَالًا عَامًّا يُقَاسُ عَلَيْهِ مَا سِوَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وصف الدنيا بوصفين كالمتضادين3:
__________
1 أي: كما في المسائل التي أشار إليها فيما يستثنيه المجتهد في تحقيق المناط الخاص وما ذكر معه. "د".
2 انظر تفصيل ذلك مع الأدلة في: "مصنف ابن أبي شيبة" "4/ 135 و5/ 336"، و"مصنف عبد الرزاق" "11/ 149"، و"سنن سعيد بن منصور" "2/ 185-187"، و"السنن الكبرى" "4/ 334-335" للبيهقي، و"مجمع الزوائد" "4/ 64"، و"فتح الباري" "4/ 229"، و"القرى لقاصد أم القري" "67-68"، و"تفسير القرطبي" "2/ 190 و7/ 341"، و"أحكام القرآن" "1/ 131" للجصاص، و"إتحاف السادة المتقين" "4/ 513"، وكتابنا "المروءة" "ص108 - ط الأولى"، وغيرهما كثير، وانظر ما مضى "1/ 331".
3 وإنما كان هذان الوصفان كليين لأنهما في معنى "كل ما اشتملت عليه الحياة الدنيا مذموم"، "وكل ما اشتملت عليه الحياة الدنيا ممدوح ونافع"، وإنما لم يجعلهما متضادين حقيقة لوجود الاعتبارين المشار إليهما أيضًا؛ فإن ما ذكر من الآيات والأحاديث ليس صريحًا في الوصفين المذكورين، ولكنه يفهم منه ذلك، ولذا قال: "يقتضي"، ووسط الوجهين المذكورين في كل منهما كمقدمة ينتقل الذهن منها إلى وصف الذم، ثم بين التضاد بين الوجوه المقتضية للوصفين، وسيأتي له بعد تمام البيان أن يقول: "فالوصفان إذن متضادان". "د".

الصفحة 354