كتاب الموافقات (اسم الجزء: 5)

كَانَ الْعِلْمُ بِهِ كَمَالًا فِي الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَبَيَانُ تَعَيُّنِ1 هَذَا الْعِلْمِ مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ عَرَبِيَّةٌ، وَإِذَا كَانَتْ عَرَبِيَّةً؛ فَلَا يَفْهَمُهَا حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا مَنْ فَهِمَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةِ حَقَّ الْفَهْمِ؛ لِأَنَّهُمَا سِيَّانِ2 فِي النَّمَطِ مَا عَدَا وُجُوهَ الْإِعْجَازِ، فَإِذَا فَرَضْنَا مُبْتَدِئًا فِي فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ مُبْتَدِئٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ، أَوْ مُتَوَسِّطًا؛ فَهُوَ مُتَوَسِّطٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ وَالْمُتَوَسِّطُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ النِّهَايَةِ، فَإِنِ انْتَهَى إِلَى دَرَجَةِ الْغَايَةِ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَكَانَ فَهْمُهُ فِيهَا3 حُجَّةً كَمَا كَانَ فَهْمُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُصَحَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا الْقُرْآنَ حُجَّةً، فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ شَأْوَهُمْ؛ فَقَدْ نَقَصَهُ مِنْ فَهْمِ الشَّرِيعَةِ بِمِقْدَارِ التَّقْصِيرِ عَنْهُمْ، وَكُلُّ مَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ لَمْ يُعَدَّ حُجَّةً، وَلَا كَانَ قَوْلُهُ فِيهَا مَقْبُولًا.
فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْلُغَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مَبْلَغَ الْأَئِمَّةِ فِيهَا؛ كَالْخَلِيلِ، وَسِيبَوَيْهِ، وَالْأَخْفَشِ، وَالْجَرْمِيِّ، وَالْمَازِنِيِّ وَمَنْ سِوَاهُمْ، وَقَدْ قَالَ الْجَرْمِيُّ4: "أَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً أُفْتِي الناس [في الفقه] من كتاب سيبويه"5.
__________
1 في "ط": "تعلم".
2 أي أن ما ورد في الشريعة من الكتاب والسنة وما ورد من كلام العرب من نمط واحد وطريق واحد، سوى ما اختص به من المزايا التي ترتفع بها درجة الكلام في الحسن والقبول، فالقرآن انفرد عن سائر كلام العرب بمزايا جعلته معجزًا للبشر عن الإتيان بسورة منه، والحديث امتاز بما جعله يفوق غيره من كلامهم وإن لم يبلغ درجة الإعجاز. "د".
3 يعني: فهمه من حيث ما يفيده الكلام العربي، وليس المراد أنه بمجرد ذلك يكون مجتهدًا في الشريعة ويؤخذ بقوله فيها، بل لا بد من ضم
الصفات الأخرى من معرفة مقاصد الشريعة وغير ذلك. "د".
4 هو أبو عمر صالح بن إسحاق البجلي مولى لهم، نزل في جرم، فنسب إليهم، إمام العربية، وكان صادقًا ورعًا خيرًا، إليه انتهى علم النحو في زمنه، توفي سنة خمس وعشرين ومئتين، له ترجمة في "السير" "10/ 561-563".
5 أسنده عنه الزبيدي في "طبقات النحويين واللغويين" "ص75"، وقول المصنف الآتي: "وفسروا ذلك ... " أورده الزبيدي من مقالة محمد بن يزيد، وهو ممن روى عن الجرمي، وكذا في صدر "كتاب سيبويه" "1/ 5-6" كما سيأتي عند المصنف قريبًا.

الصفحة 53