كتاب الموافقات (اسم الجزء: 5)

ثُمَّ قَالَ1: "فَمَنْ جَهِلَ هَذَا مِنْ لِسَانِهَا- وَبِلِسَانِهَا نَزَلَ الْكِتَابُ وَجَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ؛ فَتَكَلَّفَ الْقَوْلَ فِي عِلْمِهَا تَكَلُّفَ مَا يَجْهَلُ بَعْضَهُ، وَمَنْ تَكَلَّفَ مَا جَهِلَ وَمَا لَمْ تُثْبِتْهُ معرفته2؛ كانت موافقته للصواب3 وإن وافقه من حيث لا يعرف غَيْرَ مَحْمُودَةٍ، وَكَانَ بِخَطَئِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ، إِذَا نَطَقَ 4 فِيمَا لَا يُحِيطُ عِلْمُهُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ فِيهِ".
هَذَا قَوْلُهُ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ، وَغَالِبُ مَا صُنِّفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنَ الْفُنُونِ إِنَّمَا هُوَ الْمَطَالِبِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي تَكَفَّلَ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا بِالْجَوَابِ عَنْهَا، وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ؛ فَقَدْ يَكْفِي فِيهِ التَّقْلِيدُ، كَالْكَلَامِ فِي الْأَحْكَامِ تَصَوُّرًا وَتَصْدِيقًا؛ كَأَحْكَامِ النَّسْخِ، وَأَحْكَامِ الْحَدِيثِ، وَمَا أَشْبَهَ5 ذَلِكَ.
فالحصل أَنَّهُ لَا غِنَى لِلْمُجْتَهِدِ6 فِي الشَّرِيعَةِ عَنْ بُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ فَهْمُ خِطَابِهَا لَهُ وَصْفًا غَيْرَ مُتَكَلَّفٍ ولا متوقف فيه في الغلب إِلَّا بِمِقْدَارِ تَوَقُّفِ الْفَطِنِ لِكَلَامِ اللَّبِيبِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنَ الْمَطَالِبِ:
وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْعُلُومِ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ عَالِمًا بِهَا؛ فَقَدْ مَرَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا بَنَى اجْتِهَادَهُ عَلَى التَّقْلِيدِ فِي بَعْضِ الْمُقَدِّمَاتِ السَّابِقَةِ عَلَيْهِ؛ فَذَلِكَ في كونه مجتهدًا في عين مسألته،
__________
1 أي: الشافعي في "الرسالة" "الفقرات 177-178".
2 في النسخ المطبوعة، و"ط": "يثبته معرفة"، وما أثبتناه من "الرسالة".
3 في النسخ المطبوعة، و"ط": "موافقة الصواب"، وما أثبتناه من "الرسالة".
4 كذا في جميع النسخ، وفي مطبوع "الرسالة": "إذا ما نطق ... ".
5 كأسباب النزول ومواقع الإجماع. "د".
6 كذا في "م"، وفي الأصل و"ف" و"د" و"ط": "بالمجتهد"، وكتب "ف": "المناسب للمجتهد باللام؛ أي: لا بد له من ذلك: يقال: ما لك عنى عنه ولا مغني، أي: ما لك عنه بد".

الصفحة 57