كتاب الموافقات (اسم الجزء: 5)
لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ حَاكِمَةً بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ [وَقَدْ ذَمَّتِ الْمُخْتَلِفِينَ] فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الدِّينِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ عَامًّا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، حَسْبَمَا اقْتَضَتْهُ الظَّوَاهِرُ الْمُتَضَافِرَةُ وَالْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ، فما جَاءَتْهُمْ1 مَوَاضِعُ الِاشْتِبَاهِ وَكَلُوا مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ عَمَلٌ إِلَى عَالِمِهِ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلُهُ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِه} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنَ النَّظَرِ فِي مُتَعَلِّقَاتِ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ كَمُلَتْ، فَلَا يُمْكِنُ خُلُوُّ الْوَقَائِعِ عَنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ؛ فَتَحَرَّوْا أَقْرَبَ الْوُجُوهِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ الشَّرْعِيُّ، وَالْفِطَرُ وَالْأَنْظَارُ تَخْتَلِفُ؛ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ مِنْ هُنَا لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مِنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي هَذِهِ الْمُشْتَبِهَاتِ الْفَرْعِيَّةِ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا فِيهَا -وَهُمُ الْقُدْوَةُ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ وَالْجَرْيِ عَلَى مَقَاصِدِهَا- لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ ذَلِكَ الْبَابَ لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَمِّ الِاخْتِلَافِ، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا، وَمَوَاضِعُ الِاشْتِبَاهِ مظانٌّ الِاخْتِلَافِ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ فِيهَا؛ فَكَانَ الْمَجَالُ يَضِيقُ عَلَى مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، فَلَمَّا اجْتَهَدُوا وَنَشَأَ مِنِ اجْتِهَادِهِمْ فِي تَحَرِّي الصَّوَابِ الِاخْتِلَافُ؛ سَهُلَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ سُلُوكُ الطَّرِيقِ، فَلِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز: "مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِاخْتِلَافِهِمْ حُمْرَ النَّعَمِ"2.
وَقَالَ: "مَا أُحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْتَلِفُوا"3.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقَلِّدِينَ؛ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لَا فَرْقَ بَيْنَ مُصَادَفَةِ الْمُجْتَهِدِ الدَّلِيلَ، وَمُصَادَفَةِ الْعَامِّيِّ الْمُفْتِيَ؛ فَتَعَارُضُ الْفَتْوَيَيْنِ عَلَيْهِ كَتَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ4 عَلَى الْمُجْتَهِدِ، فَكَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ اتِّبَاعُ الدَّلِيلَيْنِ مَعًا، وَلَا اتِّبَاعُ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَرْجِيحٍ، كَذَلِكَ لا يجوز
__________
1 في "ط": "جاءت".
"2 و3" مضى تخريجهما قريبًا.
4 أي: في نظر المجتهد، وأما في نفس الأمر؛ فلا تعارض على الصحيح. "ف".
قلت: وما عند المصنف في "المستصفى" "2/ 391" للغزالي.
الصفحة 76