كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

أَقصى دَرَجاتِها؛ فقد أطْلَقُوا العقلَ في مَسَارِحَ تنبو عن مَدْرَكِه، وتميلُ عن مَعْيَهه، ليعود حسيرًا مَسْلوبًا.
ثمَّ جَروا بالأدلَّة النَّقليَّةِ ودَلالاتِها في مَهامِهِ التَّنكيرِ، والتَّحريفِ، والتَّفريغِ مِن مَضامينِها الحقَّةِ الَّتي رامَها الُمتكلِّمُ أوَّل مرَّة؛ مُسَلِّطةً عليها مَنَاهجَ استشراقِيَّةً كافرةً بالوَحيِ، تعامَلَت مع نصوصِه بحُسبانِها ظاهرةً تاريخيَّةً ماديَّةً خالصةً؛ مُتعامِيةً عن حقيقةِ مَصدرِها الإلهيِّ الَّذي لا يَتَطرَّق إليه باطلٌ.
هذا التَّعامي عن دلائل الشَّرعِ والإذعان لمَخابِرها الحقَّةِ، مَردُّه -في الغالب- إلى عَمى قلب النَّاظر؛ ذلك أنَّ النُّفوسَ إذا استقَرَّت على حُكمٍ تَهواه، تكلَّفت له دليلًا مِن العقلِ أو النَّقل لدفعِ ما يُناقِضُه مِن أخبار، وتأويل ما يُضادُّه من مُحكَمات، وتَعَلَّق بما يسنُده من مُتشابِهات.
فآلَت بذا الحالُ إِلى عَبَثيَّةٍ فكريَّةٍ مُمَزِّقةٍ، لا خلاصَ منها إلَّا بمنهجٍ يأبى الخصومةَ، ويكشِف عن الاتِّساق بين الدَّلائلِ النَّقليَّةِ والعقليَّةِ، ولا يَتَحقَّق ذلكَ إلا بلُزومِ سابِلةِ المنهجِ السُّنِّيِ المَعصومِ.
فأين هذا المَنهج؟ .. ومَن يدَعُنا لحالِنا نسلُكه؟! ..
لقد تَعرَّض أبناءُ هذا الجيلِ -ولا يزالون- لسَيْلٍ طاغٍ ومَوجاتٍ مُتلاحقة مِن التَّشكيكِ في دينِهم وتُراثِهم وأيَّامِهم؛ «فالشِّعرُ الجاهليُّ عندهم: غُموضٌ وانتحالٌ، وتفسيرُ القرآن: مَشحون بالإسرائيليَّات، والحديثُ النَّبوي: مَليءٌ بالوَضعِ والضَّعف، والنَّحو: تعقيدٌ وتأويلات، والتَّاريخ: صُنِع للحُكَّام والملوك، ولم يَرصُد نبضَ الشُّعوبِ وأشواقَها» (¬١).
يَسمعُ شبابُنا هذا كلَّه عالِيًا مُدوِّيًا، تَتَجاوَب أصداُؤه المُترنِّحة مِن أحْلاسِ المقَاهي، وصفحاتِ التَّواصلِ الاجتماعيِّ، إلى أروقةِ الثَّقافةِ، وقاعاتِ الدِّرسِ الجَامعيِّ، ولا يَستطيعُون لذلك دفعًا ولا رَدَّا؛ لغَرارَتِهم، وجَهلِهم، وقِلَّةِ حيلَتِهم.
---------------
(¬١) «الموجَز» لمحمود الطَّناحي (ص/٨).

الصفحة 11