كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

ولأنَّ كلَّ هذه السُّموم إنَّما تُساق في ثيابٍ مُزركشَةٍ، مِن مصطلحاتِ (المنهجيَّةِ)، و (المَوضوعيَّة)، و (التَّنوير)، و (التَّفكيرِ العقليِّ)، و (البحث العِلميِّ)، مَصبوغٍ ذلك بخِطابٍ أخَّاذ؛ فلا يَعرِفُ أثَرَ هذه الزَّخارفِ الخدَّاعةِ إلَّا مَن ابتُليَ بشَرِّها، وصَلَى جمْرَتَها؛ والنَّاس إذا كانوا في طَراوةِ الصِّبا وأوائلِ الشَّباب، تَسْتَهوِيهِم مثلُ هذه الأضاليل، وتَتلاعبُ بهم تَلاعُبِ جاريةٍ حسناءَ بذِي صَبْوةٍ.
وأحسبُ أنَّ كثيرًا مِن أبناءِ جيلي، قد وَقعوا في هذا المَهْوى السَّحيق.
وكنتُ أجدُ -ولازلتُ- أكثرَ تلك الأصواتِ دَويًّا، وأشدَّها فتكًا وأذيَّةً، تلك الصَّارخة في وجهِ السُنَّةِ الشَّريفة، مُشكِّكةً في ما توارثته الأمَّة مِن أخبارها، مُزريةً بجهودِ المُحدِّثين فيما أُودِعَتْه من أسْفارها.
وهذا أمر لا شكَّ جَلَل؛ فإنَّ تلك السُّنةَ وما تفتقِرُ إليه مِن معرفةِ أحوالِ رُواتها، ومَعرفةَ العربيَّة، وآثارَ الصَّحابةِ والتَّابعين في التَّفسير وغيره، وبيانَ معاني السُّنَن والأحكام وغيرها، والفقهَ نفسَه، إنَّما مَدارُ هذا كلِّه على النَّقلِ، ومَدارُ النَّقلِ على ما ارتضاه أولئك المُحدِّثون وأضرابُهم مِن مناهجَ في الرَّوايةِ والنَّقدِ والتَّوثيق.
فكان الطَّعنُ فيهم طعنًا في المَنقولِ كلِّه، بل في الدِّين مِن أصلِه (¬١)! «حتَّى تصيرَ دِيانةُ المسلمين إلى ما صارَت إليه ديانةُ اليهود والنَّصارى المَطعونِ في كُتبِهم، ويَصيروا يَطعنُون دينَهم بأيْدِيهم! وليس لذلك مِن فائدةٍ سِوى شِفاء صدورِ أعداءِهم، حتَّى صاروا يقولون لنا: نحن وإيَّاكم في الهَوَى سَوَا!» (¬٢).
هذه -والله- الحقيقة المُرَّة الَّتي يَتكَشَّف عنها الزَّمان بين الفَينة والأخرى، يشهَدُ عليها مَن ذاقَ مَرارَتها، وعَلِمَ دَواخِل أصحابِها.
---------------
(¬١) انظر «التنكيل» للمُعلِّمي (١/ ١٨١).
(¬٢) «الدِّفاع عن الصَّحيحين دفاع عن الإسلام» للحجوي الفاسي (ص/١١٦) بتصرف يسير.

الصفحة 12