كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

فكان يقول: «ينبغي أن نَنظُر إلى مَوقفِ النَّظَّام، باعتبارِه تواصلًا لاتِّجاهٍ سَبَقه داخلَ المدرسة الاعتزاليَّة، .. إنَّ هذه الجُرأة الَّتي تحتكِمُ إلى العقلِ سُلطةً مَعرفيَّةً، ومِحَكًّا للصَّادقِ والزَّائفِ مِن الأخبارِ، سَتَجِدُ مَن يُطبِّقها في الواقع» (¬١).
والَّذي يَغلِبُ على ظنِّي بعد مُطالعَتي لكثيرٍ مِن كتاباتِ العَلمانيِّين في هذا الباب، وتأمُّل خطاباتِهم في الإعلام:
أنَّ انخراطَهم في هذا المَسْلكِ العَقَديِّ المُحتَذي لمذهبِ الاعتزال، لم يكُن أبدًا عن قناعةٍ تامَّةٍ بأصولِ هذا المذهب الكَلاميِّ في الاستدلالِ؛ وإلَّا لَكانوا أخَذوا أيضًا بأصلِهم الخامس في «الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكر»! ومَعلومٌ للكلِّ من حالِهم أنَّهم أكثرُ النَّاسِ اشمِئزازًا ونفورًا مِن هذه الشَّعيرة!
ولكنَّ انتهاجَ هؤلاء العَلمانيِّين المُعاصرين لمَقالاتِ المُعتزلةِ، إنَّما هو انتهاجٌ نَفعيٌّ مُؤَدْلجٌ، يُمارِسونَه -على وجِه الاضطرارِ المُؤقَّتِ- على التُّراثِ الإسلاميِّ بمُختلَفِ مُكوِّناتِه.
فالمُستغرِبون الَّذين يرفعون رايةَ الدَّعوة إلى التَّمرُّد على السُّنةِ وتَجاوز نصوصها، وإن أظهروا الإشادةَ بالتيَّار الاعتزاليِّ في عقلانيَّته، «إلَّا أنَّهم -في حقيقةِ الأمرِ- أَظهروا هذه الإشادةَ ليستَتِروا خلفَ هذا الأنموذجِ، ويُظهِروا لمِن لا يَعرِفُ حقيقةَ مَقاصدِهم، أنَّهم إِنَّما يستلَهِمون مِن ذاتِ التَّاريخ الإسلاميِّ وما نَشَأ فيه مِن حَرَكاتٍ وفِرَقٍ ما زَعَموا أنَّه نواةٌ للإبداعِ والتَّحديث، فيُخفوا بهذا الاحتفاءِ الأنموذَجَ الحَقيقيَّ الَّذي وَقعَوا في تَبَعيَّتِه واجترارِ رِجْسِه وآفاتِه» (¬٢)، وهذا الكامنُ في أُنْموذج الفكرِ الغَربيِّ الوَثنيِّ بتمامِه.
هذه حقيقةٌ لم يستطِع حتَّى كبارُهم التَّستُّر عليها؛ فهذا (نَصر أبو زيد) (¬٣) يُفشيها بقولِه: «لا يَعني إحياؤُنا للاعتزالِ أنَّنا نقبلُ مواقفَ المعتزلة كلِّها ..
---------------
(¬١) «السنة بين الأصول والتاريخ» (ص/٢١١).
(¬٢) «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/٣٠).
(¬٣) نصر حامد أبو زيد: باحث أكاديمي مصري، متخصص في نقد التراث الإسلامي واللغة العربية، وعندما قدم أبحاثه للحصول على درجة أستاذ، اتهمَّته لجنة التَّحكيم بالكفر، فخرج بعدها من مصر، ثم رجع إليها بعد سنين، ومات سنة (٢٠١٠ م)، انظر ترجمته في «أعلام الفكر العربي» للسيد ولد أباه (ص/٢٠٠).

الصفحة 121