كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 1)

يقول ابن تيمية في حقِّ كثيرٍ من أهل الكلام والفلسفةِ: «هؤلاء مُضطَرِبون في مَعقولاتهم أكثرَ مِن اضطرابِ أولئك في المَنقولاتِ، تجِدُ هؤلاء يقولون أنَّا نعلمُ بالضَّرورةِ أمرًا، والآخرون يقولون نعلمُ بالنَّظرِ أو بالضَّرورةِ ما يُناقِضُه! وهؤلاء يقولون العقلُ الصَّريحُ لا يَدلُّ إلَاّ على ما قُلناه، والآخرون يُناقضوهم في ذلك!
ثمَّ مَن جَمَع منهم بين هذه الحُجَج، أدَّاه الأمرُ إلى تكافؤِ الأدلَّة، فيبقى في الحيرةِ والوقفِ أو إلى التَّناقض، وهو أن يقول هنا قولًا، ويقول هنا قولًا يُناقضه، كما تجد مِن حالِ كثيرٍ مِن هؤلاء المُتكلِّمين والمُتفلسفة، بل تجدُ أحدَهم يجمَعُ بين النَّقيضين، أو بين رَفعِ النَّقيضين -والنَّقيضان اللَّذان هما الإثباتُ والنَّفيُ لا يجتمعان ولا يَرتفعان-، بل هذا يُفيد صاحبَه الشَّكَ والوقفَ، فيَتَردَّد بين الاعتقادَين المُتناقضين: الإثباتِ والنَّفي، كما يَتَردَّد بين الإرادتين المُتناقِضَتين.
وهذا هو حالُ حُذَّاق هؤلاء، كأبي المَعالي، وأبي حامد، والشِّهرستاني، والرَّازي، والآمدي، وأمَّا ابنُ سِينا وأمثاله: فأعظمُ تناقضًا واضطرابًا، والمُعتزلة بين هؤلاء وهؤلاء في التَّناقضِ والاضطرابِ، وسَبَبُ ذلك: جَعلُ ما ليس بمَعقولٍ مَعقولًا، لاشتباهِ الأمرِ ودِقَّة المَسائل، وإلَاّ فالمَعقولاتُ الصَّريحةُ لا تَتَناقض، والمَنقولاتُ الصَّحيحةُ عن المَعصوم لا تَتَناقض» (¬١).
فبانَ أنَّ نفسَ العقلَ المَقول بأوَّليَّتِه غيرُ مُنضبِطِ المَعالِم لدى أَصحابِه، إذْ كلُّ طائفةٍ قد أَصَّلَت لها أُصولًا بِدعيَّةً، جعَلَتها عَقْلًا تَتَمعْقلُ به على الأحاديثِ النَّبويَّة، فما وافقها قُبِلَ، وما خالفها رُدَّ.
وهذه الأُصول قد دَرَج عليها المُتأخِّرون مِمَّن انتحَلَ طريقتَهم، إلَاّ أنَّ فِئامًا منهم -كمحمَّد عبدُه- لم تكُن المَركزيَّة لديهم لعقلٍ واحدٍ، وهو العقلُ المُستبطِن أُصولَ الطَّائفة، بل أَصبحَ العقلُ لديهم مُرَكَّبًا مِن ذلك مع ما استَوْلَدَه الفِكرُ البَشريُّ مِن نَظريَّاتٍ عِلميَّةٍ، ثبتَ بعضُها، ولم يَرْقَ كثيرٌ منها إلى رُتبةِ الحقائقِ
---------------
(¬١) «الصَّفدية» لابن تيميَّة (١/ ٢٩٤ - ٢٩٥).

الصفحة 128