كتاب المعارضات الفكرية المعاصرة لأحاديث الصحيحين (اسم الجزء: 3)
مِن طولِ مُعارضتِهم للجيوشِ، ومُحاربتِهم لهم، فلتُطلَب غِرَّتُهم، ولا يُحدَث لهم الدَّعوة .. وأمَّا مَن بَعُد، وخِيف أن لا تكون ناحيتُه ناحيةَ مَن أعلمتُك، فإنَّ الدَّعوة أقطعُ للشَّك، وأبرُّ للجهاد» (¬١).
والجمهور وإن قالوا بعَدمِ الوجوبِ في مثل تلك الحالِ من شمول الدَّعوة، فقد استَحبُّوا مع ذلك تقديمَ الدَّعوة قبل القتالِ (¬٢)، وبذا أمَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم أمراءَ الأجناد؛ من ذلك أمرُه صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه بدعوةِ أهلِ خَيْبرَ قبل القتالِ مع كونِهم مِمَّن بلَغَتهم دعوتُه (¬٣).
والتَّكرار قد يُجدي المقصودَ فينعدِمُ الضَّرر، فلربَّما إذا عَلِموا أنَّا نُقاتلهم على أسْرِهم، وأخذِ أموالِهم: أنْ يُجيبوا إلى المقصود مِن غير قِتالٍ (¬٤)؛ فكما أنَّ إزالةَ الكفر، وإخراجَ العبادِ من جَوْرِ الأديانِ إلى عدلِ الإسلامِ مِن مَقاصد الدِّين العُظمى؛ فإنَّ حقنَ الدِّماء، والتَّضييقَ في ذلك: مِن مَقاصدِه الجليلةِ أيضًا؛ فإذا ما حصَلَ المَقصد الأوَّل مِن غيرِ احتياجٍ إلى قِتالٍ، لم يجُزْ البَدارُ إلى نَقضِ المقصدِ الثَّاني بحجَّة الأوَّلِ قطعًا.
وفي تقريرِ هذا التَّفصيل، يقول الشِّرْبيني (ت ٩٧٧ هـ): «وُجوبُ الجهاد وجوبُ الوسائلِ لا المَقاصد، إذْ المقصود بالقتالِ إنمَّا هو الهداية، وما سواها مِن الشَّهادة؛ وأمَّا قَتلُ الكُفَّار فليس بمَقصودٍ، حتَّى لو أمكنَ الهداية بإقامةِ الدَّليل بغير جهادٍ، كان أوْلى مِن الجهاد» (¬٥).
---------------
(¬١) «المدوَّنة» (١/ ٤٩٦).
(¬٢) انظر «التمهيد» لابن عبد البر (٢/ ٢١٨ - ٢١٩)، و «شرح النووي على مسلم» (١٢/ ٣٦)، و «فتح الباري» لابن حجر (٦/ ١٠٨).
(¬٣) أخرجه البخاري في (ك: الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، رقم: ٢٩٤٢)، ومسلم في (ك: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رقم: ٢٤٠٦).
(¬٤) انظر «فتح القدير» لابن الهمام (٤/ ٤٤٦)، و «مرقاة المفاتيح» لعلي القاري (٦/ ٢٥٢٥).
(¬٥) «مغنى المحتاج» (٦/ ٩).
الصفحة 1300
1883